به، أو كان غامضًا عليه مع علمه به على وجه الإجمال، فيأتي المثل القرآني لرفع هذه الجهالة وإزالة هذا الغموض، والفصل في القضية فصلًا يقرِّه العقل السليم، ولا يمجه الطبع المستقيم، فلا يقع المخاطب بعد فهمه لهذا المثل تحت الشك أو الخيال المفرط، فلا يسعه إلا الإيمان به والتسليم بنتائجه.
ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن الحور العين والولدان المخلدين في مثل قوله -جل شأنه: ﴿وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ ١.
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾ ٢.
فالحور العين ذوات صور يمكن أن تدرك بالحسِّ الظاهر، ولكنهن مجهولات لنا، بعيدات الآن عن إدراكنا الحسِّي وعن تصوراتنا الخيالية، فيقرِّب الله لنا طرفًا من صورة لون يشرتهن ونعومتها، وغير ذلك من نعوتهن.
ويكشف لنا عن طبيعة الولدان وصورهم المحسَّة في صورة ذات بهجة وجمال ساحر، تجعل المخاطَب كأنه قد رأى وسمع وألمَّ ببعض ما لهؤلاء وأولئك من خصائص وسمات.
وهذه الأمثال وأشباهها أمثال تقريبية تقرِّبُ فهم الحقيقة، ولا تعبِّر عن ذاتها؛ إذ هي أعظم من ذلك بكثير.
الغرض الثاني: الإقناع بأمر من الأمور، وهذا الإقناع قد يصل إلى مستوى إقامة الحجة البرهانية، وقد يقتصر على مستوى إقامة الحجة الخطابية، وقد يقتصر على لفت النظر إلى الحقيقة عن طريق صورة مشابهة.
والحجة البرهانية هي الحجة الملزمة التي تفيد اليقين، أما الحجة الخطابية فهي حجة إقناعية ظنية تفيد الظن الراجح.
ولفت النظر يكفي فيه إيراد المثل المشابه ولو لم يشتمل على آية حجة.
فمن البراهين العقلية المقنعة ما ورد من الأمثال في بدء الخلق وإعادته، فقد استدلَّ الخالق -جل شأنه- على إعادة الخلق ببدئهم، وهو من أقوى البراهين على الإطلاق؛ لأن القادر على البدء والإيجاد من العدم قادر على الإعادة لا محالة.

١ الواقعة: ٢٢-٢٣.
٢ الطور: ٢٤.


الصفحة التالية
Icon