وينبغي أن نقرِّرَ بادئ ذي بدء أن خصائص القرآن التي تميَّزَ بها عن غيره من الكتب السماوية بوجه خاص، وعن كلام الناس بوجه عام، فجعلته معجِزًا في بيانه وتشريعه. قد أفاض في ذكرها الأدباء والبلغاء من أصحاب الملكات الفريدة، والمواهب الفذة، فكانوا بين مقلٍّ في سردها ومكثِر، ولكن لم يقل واحد منهم إنه قد أحاط بما لديه خبرًا، بل إنهم جميعًا لم يقدموا لنا من هذه الخصائص إلا قطرة من بحر، فلم يزيدوا على أن قرَّبوا لنا البعيد بِضَرْبٍ من التمثيل بغية الإيضاح والتبيين.
ويبقى القرآن أبدًا هو الكتاب الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تبلى جدته، ولا يمله قارئوه ولا سامعوه.
ونحن إذا سمحنا لأنفسنا أن نتكلَّم عن بعض هذه الخصائص القرآنية، فإنما نذكر على وجه التمثيل والتقريب أيضًا، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
الخاصة الأولى: جمال التعبير
اصطفى الله من ألفاظ اللغة العربية أفصحها وأيسرها على اللسان، وأسهلها على الأفهام، وأمتعها للآذان، وأقواها تأثيرًا على القلوب، وأوفاها تأدية للمعاني، ثم ركَّبَها تركيبًا محكم البنيان، لا يدانيه في نسجه كلام البشر من قريب ولا من بعيد، وذلك لما يكمن في ألفاظه من الإيحاءات التي تعبر إلى خلجات النفس، وتقتَحِم شغاف القلوب.
وما يكون في تركيبه من ألفة عجيبة، وانسجام وثيق بين هذه الألفاظ، مهما تقاربت مخارج حروفها أو تباعدت.
فقد جاء رصف المباني وفق رصف المعاني، فالتقى البحران على أمر قد قُدِرَ، فاستساغته جميع القبائل على اختلاف لهجاتها قراءة وسماعًا.
واستسلمت لهذا النسق الفريد، والترتيب العجيب أساطين البلاغة في كل زمان ومكان، واستمدَّت منه النفوس المؤمنة روحها وريحانها، فلم يشبع من دراسته العلماء، ولم يملّ تلاوته أحد من الأتقياء.


الصفحة التالية
Icon