أكان مرسلًا أم مسجوعًا، حتى خُيِّلَ إلى هؤلاء العرب أن القرآن شعر؛ لأنهم أدركوا في إيقاعه وترجيعه لذة، وأخذتهم من لذة هذا الإيقاع والترجيع هزة، لم يعرفوا شيئًا قريبًا منها إلّا في الشعر، ولكن سرعان ما عادوا على أنفسهم بالتخطئة فيما ظنوا، حتى قال قائلهم -وهو الوليد بن المغيرة: "وما هو بالشعر" معللًا ذلك بأنه ليس على أعاريض الشعر في رجزه، ولا في قصيده.
بيد أنه تورَّط في خطأ أفحش من هذا الخطأ، حين زعم في ظلام العناد والحيرة أنه سحر؛ لأنه أخذ من النثر جلاله وروعته، ومن النظم جماله ومتعته، ووقف منهما في نقطة وسط خارقة لحدود العادة البشرية، وبين إطلاق النثر وإرساله، وتقييد الشعر وأوزانه.
ولو أنصف هؤلاء لعلموا أنه كلام منثور؛ لكنه معجز ليس كمثله كلام، لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شيء، وما هو بالشعر ولا بالسحر؛ لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه، وقانونه ورسمه، والقرآن ليس منه؛ ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلّا من نفس خبيثة، ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمَّدية، وسموَّها ونبلها"١.
وعلمت كذلك أن هذا القرآن ليس من عند بشر، ولكنهم جحدوا ذلك حسدًا من عند أنفسهم، وتعاليًا على الحقِّ، واستكبارًا في الأرض بغير حق.
قال تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ ٢.
وقال سبحانه: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ ٣.
ونخلص من هذا الذي ذكرناه آنفًا إلى أن اللفظ الذي انتقاه الله من أفصح لغات العرب يمتاز عن غيره من الألفاظ السائدة في كلامهم بثلاث سماتٍ رئيسية:
٢ الأنعام: ٣٣.
٣ النمل: ١٤.