عناية العلماء به:
لم يكن الإعجاز القرآني في عصر الصحابة والتابعين قضية تحتاج منهم إلى نظر واستدلال.
فقد استيقنتها قلوبهم، وشهدت بها قرائحهم العربية الصافية النفية، وعلموا بالسليقة والفطرة أن القرآن كلام لا يدانيه كلام، وحديث ليس كمثله حديث.
وكان لهم من واقعهم ما يملأ بذلك قلوبهم إيمانًا لا يخالجه شكّ في أيِّ وجه من وجوه إعجازه التي عرفوها بملكاتهم العقلية، ولم يفصحوا عنها بألسنتهم، لعدم وجود ما يستدعي ذلك الإفصاح، لأن الجميع كانوا في أمر الإعجاز على قلب رجل واحد.
فلمَّا مضى عصر الصحابة والتابعين، وجاء القرن الثالث الهجري، واختلط العرب بالأعاجم، وفسدت أذواق بعض الناس في أمر المعاني التي يحملها نظم الكلام العربي بوجه عام، والنظم القرآني بوجه خاص، وظهر في الناس من يثير الشبهات، ويختلق الأقاويل على القرآن والسنة، ويخلط بين الدين والفلسفة -لما كان ذلك كذلك، اضطر العلماء الأخيار أن يدافعوا بجدٍّ وإخلاص عن كتاب ربهم -عز وجل، وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم، فعقدت مجالس العلم في كل وادٍ ونادٍ، للرد على ما يُثَار من شبهات، وما يَرِدُ من قِبَلِ أعداء الإسلام من اعتراضات تمسُّ جوهر العقيدة، وأصول الشريعة، ومن بينها قضية "إعجاز القرآن".
فقد خاض فيها كثير من المعتزلة والخوارج، وقالوا فيها ما لا ينبغي أن يقال، فانبرى أهل التفسير والحديث والفقه يفنِّدون مزاعمهم، ويسفِّهون آراءهم، واتسعت حلبة النزال في هذا الميدان.
وأُلِّفت في هذه القضية كتب كثيرة يتحدَّث فيها مصنِّفوها عن وجوه الإعجاز القرآني، ومناحيه ومسائله المتعلقة به.
وفيما يلي بيان أهم المؤلفات فيه، ثم بيان هذه الوجوه والمناحي والمسائل، بأسلوب بعيد بحمد الله تعالى عن التكلُّف والاعتساف.