كل ما ورد فيه من تلك المقاصد والعِبَر، والأحكام والحكم، فيلتقي الآخر بالأول في نسق واحد، ونسج فريد لا تناقض فيه ولا اختلاف، كما ستعرف ذلك عند معرفة أول ما نزل من الآيات، وآخر ما نزل على الصحيح من أقوال المحققين.
وإني لا أتتبع هنا أول ما نزل وآخر ما نزل في كل باب من أبواب العبادات والمعاملات، أو في كل ضربٍ من أضرب الآداب الشرعية والأخلاق المرعية، فذاك أمر عسير يحتاج تتبعه واستقصاؤه إلى طاقات فكرية وعلمية لا تتوفر لأمثالي.
ولكني أتكلم هنا عن أوَّل ما نزل بإطلاق، وآخر ما نزل على الراجح من أقوال العلماء بإطلاق.
أول ما نزل بإطلاق:
١- اتَّفَق جمهور المحققين على أن أوَّلَ ما نزل من القرآن الكريم بإطلاقٍ أوائل سورة العلق، إلى قوله -جل شأنه: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
وذلك لما رواه البخاري ومسلم "واللفظ للبخاري"، عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها قالت: "أوَّلَ ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث١ فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: أقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: أقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثالثة ثم أرسلني، فقال: أقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم. الحديث"٢.

١ يتحنَّث: يتعبَّد.
٢ الحديث بطوله رقم ٣، باب: "كيف كان بدء الوحي".


الصفحة التالية
Icon