الوجه الثاني: طريقة تأليفه
وبيان ذلك أنه قد رُتِّبَتْ آياته وسوره ترتيبًا غاية في الائتلاف والتناسق، مع أنه نزل منجَّمًا في نحو ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع والحوادث، ومقتضيات الأحوال.
حتى إنَّ الناظر فيه دون أن يعلم بتنجيم نزوله لا يخطر على باله أنه نزل منجَّمًا، وحتى إنك مهما أمعنت النظر وبحثت لا تستطيع أن تجد فرقًا بين السور التي نزلت جملة، والسور التي نزلت منجَّمَة؛ من حيث إحكام الربط في كلٍّ منهما، ومن حيث نظام المبنى ودقة المعنى، وتمام الوحدة الفنية.
الوجه الثالث: بلاغته
ونعني ببلاغته: ما اشتمل عليه أسلوبه من أنواع المعاني والبيان والبديع، مما يُحْدِثُ في النفس من التأثير الذي لا يحدثه غيره من الكلام.
قال الزركشي في البرهان: قال الخطابي في كتابه -يعني "بيان إعجاز القرآن": "إن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة، وإليه ذهب الأكثرون من علماء النظر، لكن لمَّا صَعُبَ عليهم تفصيلها صغوا فيه إلى حكم الذوق والقبول عند النفس، قال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في درجة البيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجَد في القرآن شيء منه البتة.
فالقسم الأول أعلاه، والثاني أوسطه، والثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع شعبة، انتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتها كالمتضادين؛ لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة، والمتانة في الكلام يعالجان نوعًا من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع


الصفحة التالية
Icon