أقول: في هذا الكلام شيء من المبالغة؛ لأن معرفة هذه الوجوه كلها لا يترتب عليها فوائد ذات بال.
ومعرفتها جميعًا من فضول العلم لا من أصوله، وقوله: "مَنْ لم يعرفها ويميِّز بينها لم يحِلّ له أن يتكلم في كتاب الله تعالى" حكم غير صحيح، فإن أراد بعضها كمعرفة المكي والمدني، فمسلم.
والصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكونوا يعرفون هذه الوجوه جميعًا، ومع ذلك كانوا يتكلمون في كتاب الله تعالى بما انتهى إليه علمهم عن الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم، أو وصل إليه فهمهم للآيات إذا لم يكن فيها بيان عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقولٍ منه أو بفعل.
نقل الزركشي في البرهان عن القاضي أبي بكر في الانتصار: إن هذا يرجع إلى حفظ الصحابة وتابعيهم، غير أنه لم يكن من النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قول، ولا ورد عنه أنه قال: اعلموا أنَّ قدر ما نزل بمكة كذا، وبالمدينة كذا، وفصَّله لهم، ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر، وإنما لم يفعله؛ لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة.
وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، ليُعْرَف الحكم الذي تضمنها، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول -صلى الله عليه وسلم، وقوله هذا هو الأول المكي، وهذا هو الآخر المدني.
وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم لما لم يعتبوا أنَّ من فرائض الدين تفصيل جميع المكي والمدني مما لا يسوغ الجهل به، لم تتوفر الدواعي على إخبارهم به، ومواصلة ذكره على أسماعهم، وأخذهم بمعرفته، وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف في بعض القرآن هل هو مكي أو مدني، وأن يعملوا في القول بذلك ضربًا من الرأي والاجتهاد، وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذِكر المكي والمدني، ولم يجب على من دخل في الإسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه، مكية أو مدنية.


الصفحة التالية
Icon