فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلا؛ لأن في القراءة شيئا لا يحكم إلا بالسماع والمشافهة، بل لم يكتفوا بالسماع من لفظ الشيخ فقط في التحمل، وإن اكتفوا به في الحديث؛ قالوا لأن المقصود هنا كيفية الأداء وليس كل من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء "أي: فلا بد من قراءة الطالب على الشيخ" بخلاف الحديث فإن المقصود المعنى أو اللفظ لا بالهيئات المعتبرة في أداء القرآن، وأما الصحابة فكانت فصاحتهم وطباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء كما سمعوه منه -صلى الله عليه وسلم- لأنه نزل بلغتهم، وأما الإجازة المجردة عن السماع والقراءة فالذي استقر عليه عمل أهل الحديث قاطبة العمل بها حتى صار إجماعا، وهل يلتحق بها الإجازة بالقراءات؟ قال الشهاب القسطلاني: الظاهر نعم ولكن منعه الحافظ الهمداني، وكأنه حيث لم يكن الطالب أهلا؛ لأن في القراءة أمورا لا تحكمها إلا المشافهة، وإلا فما المانع منه على سبيل المتابعة إذا كان المجاز قد أحكم القرآن وصححه، كما فعل أبو العلاء نفسه يذكر سنده بالتلاوة ثم يردفه بالإجازة إما للعلو أو المتابعة، وأبلغ من ذلك رواية الكمال الضرير شيخ القراء بالديار المصرية القراءات من المستنير لابن سوار عن الحافظ السلفي بالإجازة العامة وتلقاه الناس خلفا عن سلف.
والقارئ: المبتدئ من أفراد إلى ثلاث روايات، والمتوسط إلى أربع، أو خمس، والمنتهي: من عرف من القراءات أكثرها وأشهرها١.
والقرآن والقراءات: حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل للإعجاز، والبيان، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف، أو كيفيتها من تخفيف وتشديد، وغيرهما، وحفظ القرآن فرض كفاية على الأمة، ومعناه أن لا ينقطع عدد التواتر، فلا يتطرق إليه التبديل، والتحريف، وكذا تعليمه أيضا فرض كفاية، وتعلم القراءات أيضا، وتعليمها.
ثم ليعلم: أن السبب الداعي إلى أخذ القراءة عن القراء المشهورين دون غيرهم أنه لما كثر الاختلاف فيما يحتمله رسم المصاحف العثمانية التي وجه بها عثمان٢ رضي الله عنه إلى الأمصار "الشام واليمن والبصرة والكوفة ومكة والبحرين" وحبس بالمدينة واحدا وأمسك لنفسه واحدا الذي يقال له الإمام، فصار أهل البدع والأهواء يقرءون بما لا يحل تلاوته وفاقا لبدعتهم، أجمع رأي المسلمين أن يتفقوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للاعتناء بشأن القرآن العظيم، فاختاروا من كل مصر وجه إليها مصحف أئمة مشهورين بالثقة والأمانة في النقل، وحسن الدراية وكمال العلم، أفنوا عمرهم في القراءة والإقراء

١ للمزيد انظر النشر لابن الجزري:"١/ من ٢ إلى ٣٧". [أ].
٢ هو سيدنا عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث رضي الله عنه وأرضاه توفي سنة: "٣٥هـ". [أ] صفة الصفوة: "١/ ١٥٤/ ١٥٩".


الصفحة التالية
Icon