خُرُوجَهُمْ كَانَ لِقَصْدِ الْحَجِّ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَدَّمَ الْعُمْرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ إِلَى أَنْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَهُ مُتْعَةً قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الإحْصَارِ الَّذِي يُبِيحُ لِلْمُحْرِمِ التَّحَلُّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَانِعٍ يَمْنَعُهُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَالْمَعْنَى فِي إِحْرَامِهِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ جُرْحٍ أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ أَوْ ضَلَالِ رَاحِلَةٍ، يُبِيحُ لَهُ التَّحَلُّلَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَقَالُوا: لِأَنَّ الْإِحْصَارَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ حَبْسُ الْعِلَّةِ أَوِ الْمَرَضِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ يُقَالُ: مِنْهُ أُحْصِرَ فَهُوَ مُحْصَرٌ وَمَا كَانَ مِنْ حَبْسِ عَدُوٍّ أَوْ سَجْنٍ يُقَالُ: مِنْهُ حَصَرَ فَهُوَ مَحْصُورٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَاهُنَا حَبْسَ الْعَدُوِّ إِحْصَارًا قِيَاسًا عَلَى الْمَرَضِ إِذْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ الْحَجَّاجِ ابن عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ" (١).
قَالَ عِكْرِمَةُ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَا صِدْقٌ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ التَّحَلُّلُ إِلَّا بِحَبْسِ الْعَدُوِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ، وروي معناه ٢٩/ب عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالُوا الْحَصْرُ وَالْإِحْصَارُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ حَصَرْتُ الرَّجُلَ عَنْ حَاجَتِهِ فَهُوَ مَحْصُورٌ، وَأَحْصَرَهُ الْعَدُوُّ إِذَا مَنَعَهُ عَنِ السَّيْرِ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ ذَلِكَ حَبْسًا مِنْ جِهَةِ الْعَدُوِّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْآيَةِ ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ وَالْأَمْنُ يَكُونُ مِنَ الْخَوْفِ، وَضَعَّفُوا حَدِيثَ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَحِلُّ بِالْكَسْرِ وَالْعَرَجِ إِذَا كَانَ قَدْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الْإِحْرَامِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ كَانَتْ وَجِعَةً فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُجِّي وَاشْتَرِطِي وَقُولِي اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي" (٢).
ثُمَّ الْمُحْصَرُ يَتَحَلَّلُ بِذَبْحِ الْهَدْيِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ، وَالْهَدْيُ شَاةٌ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾
(٢) رواه مسلم: في الحج - باب: جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه برقم (١٢٠٨) ٢ / ٨٦٩.