وَالشَّيْطَانُ: الْمُتَمَرِّدُ الْعَاتِي مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَصْلُهُ الْبُعْدُ، يُقَالُ بِئْرٌ شُطُونٌ أَيْ: بَعِيدَةُ الْعُمْقِ. سُمِّيَ الشَّيْطَانُ شَيْطَانًا لِامْتِدَادِهِ فِي الشَّرِّ وَبُعْدِهِ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ أَيْ: عَلَى دِينِكُمْ ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِمَا نُظْهِرُ مِنَ الْإِسْلَامِ.
قَرَأَ أبو جعفر مستهزؤن ويستهزؤن وَقُلِ اسْتَهْزُوا وَلِيُطْفُوا وَلِيُوَاطُوا وَيَسْتَنْبُونَكَ وخاطين وخاطون ومتكن وَمُتَّكُونَ فَمَالُونَ وَالْمُنْشُونَ بِتَرْكِ الْهَمْزَةِ فِيهِنَّ
﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ أَيْ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ اسْتِهْزَائِهِمْ سُمِّيَ الْجَزَاءُ بِاسْمِهِ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا" (٤٠-الشُّورَى) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ يُفْتَحَ لَهُمْ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ سُدَّ عَنْهُمْ، وَرُدُّوا إِلَى النَّارِ وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُضْرَبَ لِلْمُؤْمِنِينَ نُورٌ يَمْشُونَ عَلَى الصِّرَاطِ فَإِذَا وَصَلَ الْمُنَافِقُونَ إِلَيْهِ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَحِيَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ" (٥٤-سَبَأٍ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ" الْآيَةَ (١٣-الْحَدِيدِ) وَقَالَ الْحَسَنُ مَعْنَاهُ اللَّهُ يُظْهِرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ يَتْرُكُهُمْ وَيُمْهِلُهُمْ وَالْمَدُّ وَالْإِمْدَادُ وَاحِدٌ، وَأَصْلُهُ الزِّيَادَةُ إِلَّا أَنَّ الْمَدَّ أَكْثَرُ مَا يَأْتِي فِي الشَّرِّ وَالْإِمْدَادُ فِي الْخَيْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَدِّ "وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا" (٧٩-مَرْيَمَ) وَقَالَ فِي الْإِمْدَادِ "وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ" (٦-الْإِسْرَاءِ) "وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ" (٢٢-الطُّورِ) ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ أَيْ فِي ضَلَالَتِهِمْ وَأَصْلُهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. وَمِنْهُ طَغَى الْمَاءُ ﴿يَعْمَهُونَ﴾ أَيْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الضَّلَالَةِ مُتَحَيِّرِينَ
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أَيِ اسْتَبْدَلُوا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ أَيْ مَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ أَضَافَ الرِّبْحَ إِلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ فِيهَا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: رَبِحَ بَيْعُكَ وَخَسِرَتْ صَفْقَتُكَ ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ الضَّلَالَةِ، وَقِيلَ مُصِيبِينَ فِي تِجَارَتِهِمْ
﴿مَثَلُهُمْ﴾ شَبَهُهُمْ، وَقِيلَ: صِفَتُهُمْ. وَالْمَثَلُ: قَوْلٌ سَائِرٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ يُعْرَفُ بِهِ مَعْنَى الشَّيْءِ وَهُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ السَّبْعَةِ ﴿كَمَثَلِ الَّذِي﴾ يَعْنِي الَّذِينَ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ. وَنَظِيرُهُ "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (٣٣-الزُّمَرِ) ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ أَوْقَدَ ﴿نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ﴾ النَّارُ ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ أَيْ حَوْلَ الْمُسْتَوْقَدِ. وَأَضَاءَ: لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ يُقَالُ أَضَاءَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ وَأَضَاءَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ هَاهُنَا مُتَعَدٍّ ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ.
يَقُولُ: مَثَلُهُمْ فِي نِفَاقِهِمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي مَفَازَةٍ فَاسْتَدْفَأَ وَرَأَى مَا حَوْلَهُ فَاتَّقَى مِمَّا يَخَافُ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا طُفِيَتْ نَارُهُ فَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ طَائِفًا مُتَحَيِّرًا فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ بِإِظْهَارِ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ أَمِنُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَنَاكَحُوا الْمُؤْمِنِينَ وَوَارَثُوهُمْ وَقَاسَمُوهُمُ الْغَنَائِمَ فَذَلِكَ نُورُهُمْ فَإِذَا مَاتُوا عَادُوا إِلَى الظُّلْمَةِ وَالْخَوْفِ. وَقِيلَ: ذَهَابُ نُورِهِمْ فِي الْقَبْرِ. وَقِيلَ: فِي الْقِيَامَةِ حَيْثُ يَقُولُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ. وَقِيلَ: ذَهَابُ نُورِهِمْ بِإِظْهَارِ عَقِيدَتِهِمْ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ النَّارَ مَثَلًا ثُمَّ لَمْ يَقُلْ