وَأَصْلُ التَّذْكِيَةِ الْإِتْمَامُ، يُقَالُ: ذَكَّيْتَ النَّارَ إِذَا أَتْمَمْتَ إِشْعَالَهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا: إِتْمَامُ فَرْيِ الْأَوْدَاجِ وَإِنْهَارُ الدَّمِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ غَيْرَ السِّنِّ وَالظُّفُرِ" (١).
وَأَقَلُّ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ الْمَقْدُورِ عليه قطع المري وَالْحُلْقُومِ وَكَمَا لَهُ أَنْ يَقْطَعَ الْوَدَجَيْنِ مَعَهُمَا، وَيَجُوزُ بِكُلِّ مُحَدَّدٍ يَقْطَعُ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ زُجَاجٍ أَوْ حَجَرٍ إِلَّا السِّنَّ وَالظُّفُرَ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الذَّبْحِ بِهِمَا، وَإِنَّمَا يَحِلُّ مَا ذَكَّيْتَهُ بَعْدَمَا جَرَحَهُ السَّبُعُ وَأَكَلَ شَيْئًا مِنْهُ إِذَا أَدْرَكْتَهُ وَالْحَيَاةُ فِيهِ مُسْتَقِرَّةٌ فَذَبَحْتَهُ، فَأَمَّا مَا صَارَ بِجَرْحِ السَّبُعِ إِلَى حَالَةِ الْمَذْبُوحِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ، فَلَا يَكُونُ حَلَالًا وَإِنْ ذَبَحْتَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ إِذَا أَدْرَكْتَهَا حَيَّةً قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ إِلَى حَالَةِ الْمَذْبُوحِ فَذَبَحْتَهَا تَكُونُ حَلَالًا وَلَوْ رَمَى إِلَى صَيْدٍ فِي الْهَوَاءِ فَأَصَابَهُ فَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ كَانَ حَلَالًا؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ ضَرُورَتِهِ، فَإِنْ سَقَطَ عَلَى جَبَلٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ سَطْحٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ فَمَاتَ فَلَا يَحِلُّ، وَهُوَ مِنَ الْمُتَرَدِّيَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ السَّهْمُ أَصَابَ مَذْبَحَهُ فِي الْهَوَاءِ فَيَحِلُّ كَيْفَ مَا وَقَعَ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ حَصَلَ بِإِصَابَةِ السَّهْمِ الْمَذْبَحَ.
﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ قِيلَ: النُّصُبُ جَمْعٌ وَاحِدُهُ نِصَابٌ، وَقِيلَ: هُوَ وَاحِدٌ وَجَمْعُهُ أَنْصَابٌ مِثْلُ عُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمَنْصُوبُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: كَانَتْ حَوْلَ الْبَيْتِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ حَجَرًا مَنْصُوبَةً، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَهَا وَيُعَظِّمُونَهَا وَيَذْبَحُونَ لَهَا، وَلَيْسَتْ هِيَ بِأَصْنَامٍ، إِنَّمَا الْأَصْنَامُ هِيَ الْمُصَوَّرَةُ الْمَنْقُوشَةُ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: هِيَ الْأَصْنَامُ الْمَنْصُوبَةُ، وَمَعْنَاهُ: وَمَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ النُّصُبِ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: هُمَا وَاحِدٌ، قَالَ قُطْرُبٌ: عَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ: وَمَا ذُبِحَ لِأَجْلِ النُّصُبِ.
﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ أَيْ: وَيَحْرُمُ عَلَيْكُمُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ، وَالِاسْتِقْسَامُ هُوَ طَلَبُ الْقَسْمِ وَالْحُكْمِ مِنَ الْأَزْلَامِ، وَالْأَزْلَامُ هِيَ: الْقِدَاحُ الَّتِي لَا رِيشَ لَهَا وَلَا نَصْلَ، وَاحِدُهَا: زَلْمٌ، وَزُلْمٌ بِفَتْحِ الزَّايِ وَضَمِّهَا، وَكَانَتْ أَزْلَامُهُمْ سَبْعَةَ قِدَاحٍ مُسْتَوِيَةٍ مِنْ شَوْحَطٍ (٢) يَكُونُ عِنْدَ سَادِنِ الْكَعْبَةِ، مَكْتُوبٌ عَلَى وَاحِدٍ: نَعَمْ، وَعَلَى وَاحِدٍ: لَا وَعَلَى وَاحِدٍ: مِنْكُمْ، وَعَلَى وَاحِدٍ: مِنْ غَيْرِكُمْ، وَعَلَى

(١) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد: ٩ / ٦٣١، ومسلم في الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر وسائر العظم، برقم (١٩٦٨) : ٣ / ١٥٥٨.
(٢) الشَّوْحَط: شجر تتخذ منه القسيّ. (القاموس المحيط: ٢ / ٦٨٠)، وانظر: الميسر والقداح، لابن قتيبة ص (٤٤) وما بعدها.


الصفحة التالية
Icon