وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي السَّرَبِ سَبْعَ سنين، وقيل: ثلاثة عَشْرَةَ سنة، وقيل: سبعة عَشْرَةَ سَنَةً، قَالُوا: فَلَمَّا شَبَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ فِي السَّرَبِ قَالَ لِأُمِّهِ: مَنْ رَبِّي؟ قَالَتْ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ: أَبُوكَ، قَالَ: فَمَنْ رَبُّ أَبِي؟ قَالَتْ: نُمْرُودُ، قَالَ: فَمَنْ رَبُّهُ؟ قَالَتْ لَهُ: اسْكُتْ فَسَكَتَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى زَوْجِهَا، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ الْغُلَامَ الَّذِي كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ يُغَيِّرُ دِينَ أَهْلِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ ابْنُكَ، ثُمَّ أَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ، فَأَتَاهُ أَبُوهُ آزَرَ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا أَبَتَاهُ مَنْ رَبِّيَ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: وَمَنْ رَبُّ أُمِّي؟ قَالَ: أَنَا قَالَ: وَمَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: نُمْرُودُ قَالَ: فَمَنْ رَبُّ نَمْرُودَ؟ فَلَطَمَهُ لَطْمَةً وَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ دَنَا مِنْ بَابِ السَّرَبِ فَنَظَرَ مِنْ خِلَالِ الصَّخْرَةِ فَأَبْصَرَ كَوْكَبًا، قَالَ: هَذَا رَبِّي.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ لِأَبَوَيْهِ أَخْرِجَانِي فَأَخْرَجَاهُ مِنَ السَّرَبِ وَانْطَلَقَا بِهِ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ، فَنَظَرَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ وَالْغَنَمِ، فَسَأَلَ أَبَاهُ مَا هَذِهِ؟ فقال: إبل ١٢٠/ب وَخَيْلٌ وَغَنَمٌ، فَقَالَ: مَا لِهَذِهِ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا رَبٌّ وَخَالِقٌ، ثُمَّ نَظَرَ فَإِذَا الْمُشْتَرِي قَدْ طَلَعَ، وَيُقَالُ: الزُّهَرَةُ، وَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَتَأَخَّرَ طُلُوعُ الْقَمَرِ فِيهَا، فَرَأَى الْكَوْكَبَ قَبْلَ الْقَمَرِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ أَيْ: دَخْلَ، يُقَالُ: جَنَّ اللَّيْلُ وَأَجَنَّ اللَّيْلُ، وَجَنَّهُ اللَّيْلُ، وَأَجَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ يَجِنُّ جُنُونًا وَجِنَانًا إِذَا أَظْلَمَ وَغَطَّى كُلَّ شَيْءٍ، وَجُنُونُ اللَّيْلِ سَوَادُهُ، ﴿رَأَى كَوْكَبًا﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (رَأَى) بِفَتْحِ الرَّاءِ وكسر الألف، وبكسرهما ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِكَافٍ أَوْ هَاءٍ فَتْحَهُمَا ابْنُ عَامِرٍ، وَإِنْ لَقِيَهَا سَاكِنٌ كَسَرَ الرَّاءَ وَفَتَحَ الْهَمْزَةَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ، وَفَتَحَهُمَا الْآخَرُونَ. ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ: فَأَجْرَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الظَّاهِرِ، وَقَالُوا: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْتَرْشِدًا طَالِبًا لِلتَّوْحِيدِ حَتَّى وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَآتَاهُ رُشْدَهُ فَلَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ فِي حَالِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَيْضًا كَانَ ذَلِكَ في حال طفوليته قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ كُفْرًا (١).
وَأَنْكَرَ الْآخَرُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ رَسُولٌ يَأْتِي عَلَيْهِ وَقْتٌ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَّا وَهُوَ لِلَّهِ مُوَحِّدٌ وَبِهِ عَارِفٌ، وَمِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ بَرِيءٌ وَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ هَذَا عَلَى مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَطَهَّرَهُ وَآتَاهُ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَأَخْبَرَ عَنْهُ فَقَالَ: "إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" (الصَّافَّاتُ، ٨٤) وَقَالَ: "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ"، أَفَتَرَاهُ أَرَاهُ الْمَلَكُوتَ لِيُوقِنَ فَلَمَّا أَيْقَنَ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ: هَذَا رَبِّيَ مُعْتَقِدًا؟ فَهَذَا مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا.
ثُمَّ قَالُوا: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجَهٍ مِنَ التَّأْوِيلِ:
أَحَدُهَا: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدْرِجَ الْقَوْمَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَيُعَرِّفَهُمْ خَطَأَهُمْ وَجَهْلَهُمْ

(١) رجح هذا القول الطبري. وهو غير صحيح، فالراجح هو أن إبراهيم عليه السلام كان مناظرا لقومه في هذا. انظر: ابن كثير ٢ / ١٥٢.


الصفحة التالية
Icon