ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ رِسَالَتَهُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ رِسَالَاتِهِ بِالْجَمْعِ، يَعْنِي: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالرِّسَالَةِ. ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ﴾ ذُلٌّ وَهَوَانٌ ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ أَيْ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ﴿وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾ ١٢٤أقِيلَ: صَغَارٌ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٌ شَدِيدٌ فِي الْآخِرَةِ.
﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ أَيْ: يَفْتَحْ قَلْبَهُ وَيُنَوِّرْهُ حَتَّى يَقْبَلَ الْإِسْلَامَ، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرْحِ الصَّدْرِ، فَقَالَ: "نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَيَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنْفَسِحُ"، قِيلَ: فَهَلْ لِذَلِكَ [أَمَارَةٌ؟] (١) قَالَ: "نَعَمْ، الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ" (٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ " ضَيْقًا " بِالتَّخْفِيفِ هَاهُنَا وَفِي الْفُرْقَانِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ: هَيْنٍ وَهَيِّنٍ وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ، ﴿حَرَجًا﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ أَيْضًا مِثْلُ: الدِّنَفِ وَالدَّنَفِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ الْحَرَجُ بِالْفَتْحِ: الْمَصْدَرُ [كَالطَّلَبِ، وَمَعْنَاهُ ذَا حَرَجٍ] (٣) وَبِالْكَسْرِ الِاسْمِ، وَهُوَ أَشَدُّ الضِّيقِ، يَعْنِي: يَجْعَلْ قَلْبَهُ ضَيِّقًا حَتَّى لَا يَدْخُلَهُ الْإِيمَانُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَيْسَ لِلْخَيْرِ فِيهِ مَنْفَذٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا سَمِعَ ذِكْرَ اللَّهِ اشْمَأَزَّ قَلْبُهُ، وَإِذَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ارْتَاحَ إِلَى ذَلِكَ.
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَسَأَلَ أَعْرَابِيًّا مِنْ كِنَانَةَ: مَا الْحَرِجَةُ فِيكُمْ؟ قَالَ: الْحَرِجَةُ فِينَا الشَّجَرَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْأَشْجَارِ الَّتِي لَا تَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةٌ وَلَا وَحْشِيَّةٌ وَلَا شَيْءٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ.
(٢) أخرجه الطبري: ١٢ / ٩٨-١٠٢، والبيهقي في الأسماء والصفات: ١ / ٢٥٧-٢٥٨ قال البيهقي: "هذا منقطع". وانظر: الدر المنثور: ٣ / ٣٥٤. فقد عزاه لابن المبارك في الزهد، وعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وضعفه الشيخ محمود شاكر في تعليقه على الطبري. وقواه ابن كثير لتعدد طرقه: ٢ / ١٧٦.
(٣) ساقط من "ب".