الدُّنْيَا، وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ يُوضَعُ فِيهِ الْبَاطِلُ غَدًا أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ: "مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ" ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَالْمِيزَانُ وَاحِدٌ؟ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ جَمْعًا وَمَعْنَاهُ وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ"، وَقِيلَ: لِكُلِّ عَبْدٍ مِيزَانٌ، وَقِيلَ: الْأَصْلُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ عَظِيمٌ، وَلِكُلِّ عَبْدٍ فِيهِ مِيزَانٌ مُعَلَّقٌ بِهِ، وَقِيلَ جَمَعَهُ: لِأَنَّ الْمِيزَانَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْكِفَّتَيْنِ وَالشَّاهِدَيْنِ وَاللِّسَانِ، وَلَا يَتِمُّ الْوَزْنُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ: مَكَّنَّاكُمْ وَالْمُرَادُ مِنَ التَّمْكِينِ التَّمْلِيكُ وَالْقُدْرَةُ، ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ أَيْ: أَسْبَابًا تَعِيشُونَ بِهَا أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ مِنَ التِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ وَالْمَآكِلِ وَالْمُشَارِبِ وَالْمُعَايِشُ جَمْعُ الْمَعِيشَةِ، ﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ فِيمَا صَنَعْتُ إِلَيْكُمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَلَقْنَاكُمْ، أَيْ: أُصُولَكُمْ وَآبَاءَكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي أَرْحَامِ أُمَّهَاتِكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: أَمَّا "خَلَقْنَاكُمْ" فَآدَمُ، وَأَمَّا "صَوَّرْنَاكُمْ" فَذُرِّيَّتُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي خَلَقْنَاكُمْ: آدَمُ، ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ فَفِي خَلْقِهِ خَلْقُ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ، وَقِيلَ: خَلَقْنَاكُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ حِينَ أَخْرَجَكُمْ كَالذَّرِّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: خَلَقْنَاكُمْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ. وَقَالَ يَمَانٌ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ صَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَأَصَابِعَهُ. وَقِيلَ: الْكُلُّ آدَمُ خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَ"ثُمَّ" بِمَعْنَى الْوَاوِ.
﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ فَإِنْ قِيلَ: الْأَمْرُ بِسُجُودِ الْمَلَائِكَةِ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ بَنِي آدَمَ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ "ثُمَّ قُلْنَا" وَثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ وَلِلتَّرَاخِي؟ قِيلَ: عَلَى قَوْلِ مَنْ يَصْرِفُ الْخَلْقَ وَالتَّصْوِيرَ إِلَى آدَمَ وَحْدَهُ يَسْتَقِيمُ هَذَا الْكَلَامُ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَصْرِفُهُ إِلَى الذُّرِّيَّةِ: فَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ:
أَحَدُهَا "ثُمَّ" بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: وَقُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ، فَلَا تَكُونُ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ "ثُمَّ" أُخْبِرُكُمْ أَنَا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا.
وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ، يَعْنِي: آدَمَ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَسَجَدُوا﴾ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ لِآدَمَ.
﴿قَالَ﴾ اللَّهُ تَعَالَى يَا إِبْلِيسُ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ أَيْ: وَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ


الصفحة التالية
Icon