عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، أَوْ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ هُوَ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِي هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ أَيْ: يَتْبَعُهُ مَنْ يَشْهَدُ بِهِ بِصِدْقِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الشَّاهِدِ (١) فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ لِسَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ مَلَكٌ يَحْفَظُهُ وَيُسَدِّدُهُ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هُوَ الْقُرْآنُ وَنَظْمُهُ وَإِعْجَازُهُ.
وَقِيلَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ عَلِيٌّ: مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا وَقَدْ نَزَلَتْ فِيهِ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَأَنْتَ أَيُّ شَيْءٍ نَزَلَ فِيكَ؟ قَالَ: ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ (٢).
وَقِيلَ: شَاهِدٌ مِنْهُ هُوَ الْإِنْجِيلُ (٣).
﴿وَمِنْ قَبْلِهِ﴾ أَيْ: وَمِنْ قَبْلِ مَجِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ. ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾ أَيْ: كَانَ كِتَابُ مُوسَى، ﴿إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾ لِمَنِ اتَّبَعَهَا، يَعْنِي: التَّوْرَاةَ، وَهِيَ مُصَدِّقَةٌ لِلْقُرْآنِ، شَاهِدَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ يَعْنِي: أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: أَرَادَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ﴾ أَيْ: بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: بِالْقُرْآنِ، ﴿مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ كُلِّهَا، ﴿فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾.
أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَا يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" (٤).

(١) انظر هذه الأقوال الآتية في: الطبري: ١٥ / ٢٧٠-٢٧٦.
(٢) أخرجه الطبري بسند فيه جابر الجعفي، وهو ضعيف، وكان رافضيا من أتباع عبد الله بن سبأ، وكذلك ضعّف هذا القول ابن كثير في التفسير: ٢ / ٤٤١ وقال: "هو ضعيف لا يثبت له قائل".
(٣) ورجح الطبري رحمه الله أن أولى الأقوال في تأويل قوله تعالى: "ويتلوه شاهد منه" هو قول من قال: "هو جبريل" لدلالة قوله: "ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة" على صحة ذلك. التفسير: ١٥ / ٢٧٦. وقال ابن كثير رحمه الله: " هو ما أوحاه الله إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكملة المعظمة المختتمة بشريعة محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، ولهذا قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو العالية والضحاك وإبراهيم النخعي والسدي وغير واحد في قوله تعالى: "ويتلوه شاهد منه": إنه جبريل عليه السلام وعن علي رضي الله عنه والحسن وقتادة هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكلاهما قريب في المعنى لأن كلا من جبريل ومحمد صلوات الله عليهما بلَّغ رسالة الله تعالى، فجبريل إلى محمد، ومحمد إلى الأمة" التفسير: ٢ / ٤٤١.
(٤) أخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة، بلفظ "... من هذه الأمة يهودي ولا نصراني... " كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، برقم (١٥٣) : ١ / ١٣٤، والمصنف باللفظ أعلاه، شرح السنة: ١ / ١٠٤ وهو كذلك عند أبي عوانة: ١ / ١٠٤ والإمام أحمد في المسند برقم (٨١٨٨) طبعة الحلبي، وهمام بن منبه في الصحيفة برقم (٩١) ص (٤٠٩). والمراد بالأمة في هذا الحديث: كل من أُرسل إليه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولزمته حجته، سواء صدقه أو لم يصدقه. وعلى هذا يتناول اللفظ جميع أمة الدعوة، من هو موجود في زمنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن يتجدد وجوده بعده إلى يوم القيامة، فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله: ولا يهودي ولا نصراني: من عطف الخاص على العام، وإنما ذكر تنبيها على من سواهما... وقال القرطبي: إذا كانت الرواية من غير عطف "يهودي" و"نصراني" فهما بدل من الأمة. أما بالعطف -كما في رواية البغوي هنا- فلا يدخل اليهودي ولا النصراني في الأمة المذكورة. وقال العراقي: ويحتمل أن يراد بهذه الأمة: العرب الذين هم عبدة الأوثان، وحينئذ فعطف اليهودي والنصراني على بابه، لعدم دخولهما فيما تقدم، وقوله في روايتنا: "ولا يهودي ولا نصراني" يوافق ذلك. انظر: صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه، بتحقيق وشرح الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب ص (٤٠٩-٤١٠) والمراجع مشار إليها.


الصفحة التالية
Icon