وَقِيلَ: إِنْجَاؤُهُ مِنَ النَّارِ، وَعَلَى إِسْحَاقَ إِنْجَاؤُهُ مِنَ الذَّبْحِ (١).

(١) هذا على القول بأن الذبيح هو إسحاق عليه السلام، والصحيح الثابت خلافه، ولذلك نضع هنا كلمة ضافية لابن القيم وشيخه ابن تيمية رحمهما الله، فيها إبطال القول بأن الذبيح مو إسحاق. قال ابن القيم في "زاد المعاد": (١ / ٧١-٧٥) :"وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ: وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غرَّ أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم: اذبح ابنك إسحاق، قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: اذبح بكرك ووحيدك، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويحتازوه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله. وكيف يسوغ أن يُقال: إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة: إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: (لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) (هود - ٧٠، ٧١) فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها ولد، ثم يأمر بذبحه، ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد، وهذا ظاهر الكلام وسياقه. فإن قيل: لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان "يعقوب" مجرورا عطفا على إسحاق، فكانت القراءة "ومن وراء إسحاقَ يعقوبَ" أي: ويعقوب من وراء إسحاق. قيل: لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشرا به، لأن البشارة قول مخصوص، وهي أول خبر سار صادق. وقوله تعالى: "ومن وراء إسحاق يعقوب" جملة متضمنة لهذه القيود، فتكون بشارة، بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية. ولما كانت البشارة قولا، كان موضع هذه الجملة نصبا على الحكاية بالقول، كأن المعنى: وقلنا لها: من وراء إسحاق يعقوب، والقائل إذا قال: بشرت فلانا بقدوم أخيه وثَقَلِه في أَثَره، لم يعقل منه إلا بشارته بالأمرين جميعأ. هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة، ثم يضعف الجر أمر آخر، وهو ضعف قولك: مررت بزيد ومن بعده عمرو، ولأن العاطف يقوم مقام حرف الجر، فلا يفصل بينه وبين المجرور، كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور. ويدل عليه أيضا أن الله سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة (الصافات) قال: "فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين" (الصافات: ١٠٣ - ١١١) ثم قال تعالى: "وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين" (الصافات -١١٢). فهذه بشارة من الله تعالى له شكرا على صبره على ما أمر به، وهذا ظاهر جدا في أن المبشَّر به غير الأول، بل هو كالنص فيه. فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته، أي: لما صبر الأب على ما أمر به، وأسلم الولد لأمر الله، جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوة. قيل: البشارة وقعت على المجموع: على ذاته ووجوده، وأن يكون نبيا، ولهذا نصب "نبيا" على الحال المقدر، أي: مقدرا نبوته، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة، هذا مُحال من الكلام، بل إذا وقعت البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى. وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل، وكان النحر بمكة من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا، ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم، لكانت القرابين والنحر بالشام، لا بمكة. وأيضا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليما. لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه. ولما ذكر إسحاق سماه عليما، فقال تعالى: "هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما. قال سلام قوم منكرون" (الذاريات- ٢٤، ٢٥) إلى أن قال: "قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم" (الذاريات - ٢٨) وهذا إسحاق بلا ريب، لأنه من امرأته، وهي المبشرة به، وأما إسماعيل، فمن السرية. وأيضا فإنهما بشرا به على الكبير واليأس من الولد، وهذا بخلاف إسماعيل، فإنه ولد قبل ذلك. وأيضا فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده، وإبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد، ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلا، والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل، فأمره بذبح المحبوب، فلما أقدم على ذبحه، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه، فقد حصل المقصود، فنسخ الأمر، وفدي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرب. ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بذبحه، وهذا في غاية الظهور. وأيضأ فإن سارة امرأة الخليل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة، فإنها كانت جارية، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه، اشتدت غيرة "سارة"، فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها "هاجر" وابنها، ويسكنها في أرض مكة لتبرد عن "سارة" حرارة الغيرة، وهذا من رحمته تعالى ورأفته، فكيف يأمره سبحانه بعد هذا أن يذبح ابنها، ويدع ابن الجارية بحاله، هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وجبره لها، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية، بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بعد هذا بذبح ولد السرية، فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتا هذه وابنها منهم، وليرى عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وأن عاقبة صبر "هاجر" وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه، من جل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة، وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره. قال تعالى: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين" (القصص - ٥) وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وانظر: "الإسرائيليات والموضوعات" للشيخ محمد أبو شهبة ص (٣٥٣-٣٦٣).


الصفحة التالية
Icon