عَنِ الدِّينِ، وَلَوْ أَرَادُوهُ لَكَفَرُوا بِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ: الْخَطَأُ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الدُّنْيَا، يَقُولُونَ: نَحْنُ أَنْفَعُ لَهُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَإِصْلَاحِ أَمْرِ مَعَاشِهِ وَرَعْيِ مَوَاشِيهِ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِالْمَحَبَّةِ مِنْهُ، فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي صَرْفِ مَحَبَّتِهِ إِلَيْهِ.
﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (٩) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (١٠) ﴾.
﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ اخْتَلَفُوا فِي قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ؛ فَقَالَ وَهْبٌ: قَالَهُ شَمْعُونُ. وَقَالَ كَعْبٌ: قَالَهُ دَانُ.
﴿أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾ أَيْ: إِلَى أَرْضٍ يَبْعُدُ (١) عَنْ أَبِيهِ. وَقِيلَ: فِي أَرْضٍ تَأْكُلُهُ السِّبَاعُ.
﴿يَخْلُ لَكُمْ﴾ يَخْلُصْ لَكُمْ وَيَصْفُ لَكُمْ. ﴿وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ عَنْ (٢) شَغْلِهِ بِيُوسُفَ، ﴿وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ﴾ مِنْ بَعْدِ قَتْلِ يُوسُفَ، ﴿قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ تَائِبِينَ، أَيْ: تُوبُوا بَعْدَمَا فَعَلْتُمْ هَذَا يَعْفُ اللَّهُ عَنْكُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَصْلُحْ أَمْرُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَبِيكُمْ.
﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ وَهُوَ يَهُوذَا، وَقَالَ [قَتَادَةُ] (٣) : رُوبِيلُ، وَكَانَ ابْنَ خَالَةِ يُوسُفَ، وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ سِنًّا وَأَحْسَنَهُمْ رَأْيًا فِيهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ أَنَّهُ يَهُوذَا، نَهَاهُمْ عَنْ قَتْلِهِ، وَقَالَ: الْقَتْلُ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ. ﴿وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَنَافِعٌ: "غَيَابَاتِ الْجُبِّ" عَلَى الْجَمْعِ فِي الْحَرْفَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ "غَيَابَةِ الْجُبِّ" عَلَى الْوَاحِدِ، أَيْ: فِي أَسْفَلِ الْجُبِّ وَظُلْمَتِهِ. وَالْغَيَابَةُ: كُلُّ مَوْضِعٍ سَتَرَ عَنْكَ الشَّيْءَ وَغَيَّبَهُ. وَالْجُبُّ: الْبِئْرُ غَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ لِأَنَّهُ جُبَّ، أَيْ: قُطِعَ وَلَمْ يُطْوَ.
﴿يَلْتَقِطْهُ﴾ يَأْخُذْهُ، وَالِالْتِقَاطُ: أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُهُ (٤)، ﴿بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ أَيْ: بَعْضُ الْمُسَافِرِينَ، فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَتَسْتَرِيحُوا مِنْهُ، ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ أَيْ: إِنْ عَزَمْتُمْ عَلَى فِعْلِكُمْ، وَهُمْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ بَالِغِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ بَعْدُ.
وَقِيلَ: لَمْ يَكُونُوا بَالِغِينَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ قَالُوا: "وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ" (٥).
(٢) في "ب": من.
(٣) في "ب": مقاتل قاله.
(٤) في "ب": يحس به.
(٥) قال السدي ومقاتل بن سليمان: إنهم أرادوا صلاح الحال عند أبيهم، وهذا يشبه أن يكون قصدهم في تلك الحال، ولم يكونوا حينئذ أنبياء. وقال الجمهور: "صالحين" معناه بالتوبة، وهو الأظهر من اللفظ، وحالهم أيضا تعطيه، لأنهم مؤمنون بنوا على عظيمة وعلّلوا أنفسم بالتوبة. انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: ٤ / ٤٤٣. ومال الحافظ ابن كثير إلى الرأي الأول، فقال في التفسير: (٢ / ٤٧٠-٤٧١) :"اعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف، وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك. ومن الناس من يزعم أنهم أُوحي إليهم بعد ذلك، وفي هذا نظر، ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل. ولم يذكروا سوى قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) وهذا فيه احتمال لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم: الأسباط، كما يقال للعرب: قبائل، وللعجم: شعوب، يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل فذكرهم إجمالا لأنهم كثيرون، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم. والله أعلم".