وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ، يَقُولُ: لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ مِنْ مَنَازِلِكُمَا تُرْزَقَانِهِ، تُطْعَمَانِهِ وَتَأْكُلَانِهِ إِلَّا نَبَّأَتْكُمَا بِتَأْوِيلِهِ بِقَدْرِهِ وَلَوْنِهِ وَالْوَقْتِ الَّذِي يَصِلُ فِيهِ إِلَيْكُمَا.
﴿قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا﴾ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكُمَا، وَأَيَّ طَعَامٍ أَكَلْتُمْ وَكَمْ أَكَلْتُمْ وَمَتَى أَكَلْتُمْ، فَهَذَا مِثْلُ مُعْجِزَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ (آلِ عِمْرَانَ -٤٩) فَقَالَا هَذَا فِعْلُ الْعَرَّافِينَ وَالْكَهَنَةِ (١)، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الْعِلْمُ؟ فَقَالَ: مَا أَنَا بَكَاهِنٍ وَإِنَّمَا ﴿ذَلِكُمَا﴾ الْعِلْمُ، ﴿مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ وَتَكْرَارُ ﴿هُمْ﴾ عَلَى التَّأْكِيدِ.

(١) العراف: هو الذي يزعم أنه يعرف الأمور الغيبية بمقدمات وأسباب قولية أو فعلية، يستدل بها على مواقعها، كالشيء يسرق، فيعرف المظنون به السرقة.. وجعله شيخ الإسلام ابن تيمية اسما للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم. والكاهن: هو الذي يدعي علم الغيب، كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب. والأصل فيه: استراق الجن السمع من كلام الملائكة فيلقيه في أذن الكاهن. وهذه صورة لادعاء علم الغيب حرمها الإسلام، إذ لا يعلم الغيب إلا الله. انظر بالتفصيل: عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي، تأليف عثمان جمعة ضميرية، ص (١١٧-١٣١).

﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٣٨) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ﴾.
﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ أَظْهَرَ أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ الْأَنْبِيَاءِ ﴿مَا كَانَ لَنَا﴾ مَا يَنْبَغِي لَنَا، ﴿أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنَا مِنَ الشِّرْكِ، ﴿ذَلِكَ﴾ التَّوْحِيدُ وَالْعِلْمُ، ﴿مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ﴾ مَا بَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الْهُدَى، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ ثُمَّ دَعَاهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ:
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ جَعَلَهُمَا صَاحِبَيِ السَّجْنِ لِكَوْنِهِمَا فِيهِ، كَمَا يُقَالُ لِسُكَّانِ الْجَنَّةِ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَلِسُكَّانِ النَّارِ: أَصْحَابُ النَّارِ، ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ﴾ أَيْ: آلِهَةٌ شَتَّى، هَذَا مِنْ ذَهَبٍ، وَهَذَا مِنْ فِضَّةٍ، وَهَذَا مِنْ حَدِيدٍ، وَهَذَا أَعْلَى، وَهَذَا أَوْسَطُ، وَهَذَا أَدْنَى، مُتَبَايِنُونَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ﴿خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ الَّذِي لَا ثَانِيَ لَهُ. الْقَهَّارُ: الْغَالِبُ عَلَى الْكُلِّ. ثُمَّ بَيَّنَ عَجْزَ الْأَصْنَامِ فَقَالَ:


الصفحة التالية
Icon