قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ أَرَادَ مَنْعَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ لِأَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْحَرَمَ فَقَدْ قَرُبُوا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ وَهَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" [الْإِسْرَاءِ -١]، وَأَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ لِأَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أَمِّ هَانِئٍ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ: وَجُمْلَةُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: الْحَرَمُ، فَلَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنَّ يَدْخُلَهُ بِحَالٍ، ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُسْتَأْمِنًا، لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِذَا جَاءَ رَسُولٌ مِنْ بِلَادِ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِمَامِ وَالْإِمَامُ فِي الْحَرَمِ لَا يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ، بَلْ يَبْعَثُ إِلَيْهِ مَنْ يَسْمَعُ رِسَالَتَهُ خَارِجَ الْحَرَمِ. وَجَوَّزَ أَهْلُ الْكُوفَةِ لِلْمُعَاهَدِ دُخُولَ الْحَرَمِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ: الْحِجَازُ، فَيَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُهَا بِالْإِذْنِ وَلَكِنْ لَا يُقِيمُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِ السَّفَرِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا" (١). فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْصَى فَقَالَ: "أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ" (٢) فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ، وَأَجَّلَ لِمَنْ يَقْدُمُ مِنْهُمْ تَاجِرًا ثَلَاثًا. وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ مِنْ أَقْصَى عَدَنِ أَبْيَنَ إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَأَمَّا الْعَرْضُ فَمِنْ جَدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: سَائِرُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يُقِيمَ فِيهَا بِذِمَّةٍ وَأَمَانٍ، وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا بِإِذْنِ مُسْلِمٍ.
قَوْلُهُ: ﴿بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ يَعْنِي: الْعَامَ الَّذِي حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ، وَنَادَى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بِبَرَاءَةَ، وَهُوَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
قَوْلُهُ ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانَتْ مَعَايِشُهُمْ مِنَ التِّجَارَاتِ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَأْتُونَ مَكَّةَ بِالطَّعَامِ وَيَتَجِّرُونَ، فَلَمَّا مُنِعُوا مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ خَافُوا الْفَقْرَ، وَضِيقَ الْعَيْشِ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ فَقْرًا وَفَاقَةً. يُقَالُ: عَالَ يَعِيلُ عَيْلَةً، ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾
(٢) أخرجه البخاري في باب إخراج اليهود من جزيرة العرب من كتاب الجزية: ٦ / ٢٧١، مطولا، ومسلم في الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، برقم (١٦٣٧) ٣ / ١٢٥٧-١٢٥٨، والمصنف في شرح السنة: ١١ / ١٨٠-١٨١.