﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي﴾ أَيْ: قِيَامَهُ بَيْنَ يَدَيَّ كَمَا قَالَ: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ (الرَّحْمَنِ -٤٦)، فَأَضَافَ قِيَامَ الْعَبْدِ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا تَقُولُ: نَدِمْتُ عَلَى ضَرْبِكَ، أَيْ: عَلَى ضَرْبِي إِيَّاكَ، ﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾ أَيْ عِقَابِي.
﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (١٦) ﴾.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا﴾ أَيِ: اسْتَنْصَرُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْأُمَمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ صَادِقِينَ فَعَذِّبْنَا، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ (الْأَنْفَالِ -٣٢).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: وَاسْتَفْتَحُوا يَعْنِي الرُّسُلَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا يَئِسُوا مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمُ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ وَدَعَوْا عَلَى قَوْمِهِمْ بِالْعَذَابِ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ (نُوحٍ -٢٦) وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (يُونُسَ -٨٨). ، الْآيَةَ
﴿وَخَابَ﴾ خَسِرَ. وَقِيلَ: هَلَكَ، ﴿كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ وَالْجَبَّارُ: الَّذِي لَا يَرَى فَوْقَهُ أَحَدًا. وَالْجَبْرِيَّةُ: طَلَبُ الْعُلُوِّ بِمَا لَا غَايَةَ وَرَاءَهُ (١). وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقِيلَ: الْجَبَّارُ: الَّذِي يُجْبِرُ الْخَلْقَ عَلَى مُرَادِهِ، وَالْعَنِيدُ: الْمُعَانِدُ لِلْحَقِّ وَمُجَانِبُهُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: هُوَ الْمُعْرِضُ عَنِ الْحَقِّ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْمُتَكَبِّرُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْعَنِيدُ" الَّذِي أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (٢).
﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ﴾ أَيْ: أَمَامَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ﴾ (الْكَهْفِ -٧٦) أَيْ: أَمَامَهُمْ (٣).
(٢) انظر في هذه الأقوال: الدر المنثور: ٥ / ١٤-١٥، والطبري: ١٦ / ٥٤٣-٥٤٥.
(٣) وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول: إنما يعني بقوله: "من ورائه" أي من أمامه، لأنه وراء ما هو فيه، كما يقول لك: "وكل هذا من ورائك"، أي سيأتي عليك، وهو من وراء ما أنت فيه، لأن ما أنت فيه قد كان قبل ذلك وهو من ورائه. وكان بعض نحويي أهل الكوفة يقول: أكثر ما يجوز هذا في الأوقات، لأن الوقت يمر عليك، فيصير خلفك إذا جزته... انظر: تفسير الطبري: ١٦ / ٥٤٧.