مِنَ النُّورِ (١).
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا﴾ أَيْ: سَأَخْلُقُ بَشَرًا ﴿مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾.
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾ عَدَّلْتُ صُورَتَهُ، وَأَتْمَمْتُ خَلْقَهُ، ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ فَصَارَ بَشَرًا حَيًّا، وَالرُّوحُ جِسْمٌ لَطِيفٌ يَحْيَا بِهِ الْإِنْسَانُ، وَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ سُجُودَ تَحِيَّةٍ لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ.
﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ﴾ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ ﴿كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ ﴿كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ؟
قُلْنَا: زَعَمَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا.
وَذَكَرَ الْمُبَرِّدُ: أَنَّ قَوْلَهُ ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ﴾ كَانَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّهُ سَجَدَ بَعْضُهُمْ فَذَكَرَ "كُلُّهُمْ" لِيَزُولَ هَذَا الْإِشْكَالُ، ثُمَّ كَانَ [يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ سَجَدُوا] (٢) فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَزَالَ ذَلِكَ الْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ "أَجْمَعُونَ" (٣)
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَلَمْ يَفْعَلُوا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، ثُمَّ قَالَ لِجَمَاعَةٍ أُخْرَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا (٤).
(٢) في "ب" من المحتمل أن يسجدوا.
(٣) جاء هذا الجواب أوضح في "مسائل الرازي وأجوبتها من غرائب آي التنزيل" ص (١٦٧-١٦٨) قال: "قال سيبويه والخليل: هو توكيد بعد توكيد، فيفيد زيادة تمكين المعنى وتقريره في الذهن، فلا يكون تحصيل الحاصل، بل تكون نسبة "أجمعون" كنسبة "كلهم" إلى أصل الجملة. وقال المبرد: قوله تعالى: "أجمعون" يدل على اجتماعهم في زمان السجود، و"كلهم" يدل على وجود السجود من الكل، فكأنه قال: فسجد الملائكة كلهم معا في زمان واحد. واختار ابن الأنباري هذا القول. واختار الزجاج وأكثر الأئمة قول سيبويه، وقالوا: لو كان الأمر كما زعم المبرد لكان "أجمعون" حالا، لوجود حد الحال فيه، وليس بحال؛ لأنه مرفوع، ولأنه معرفة كسائر ألفاظ التوكيد".
(٤) أخرجه الطبري في التفسير: ١٤ / ٣١. وقال ابن كثير: (٢ / ٥٥١) وفي ثبوت هذا عنه نظر، والظاهر أنه إسرائيلي ووصفه بأنه أثر غريب عجيب.