فَعَسْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَيَخْرُجَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَ"الْأَرْضُ" هَاهُنَا هِيَ الْمَدِينَةُ (١).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "الْأَرْضُ" أَرْضُ مَكَّةَ وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ هَمَّ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنْهَا فَكَفَّهُمُ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَهَذَا أَلْيَقُ بِالْآيَةِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ (٢).
وَقِيلَ: هُمُ الْكُفَّارُ كُلُّهُمُ أَرَادُوا أَنْ يَسْتَفِزُّوهُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ بِاجْتِمَاعِهِمْ وَتَظَاهُرِهِمْ عَلَيْهِ فَمَنَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُ مَا أَمَّلُوا وَالِاسْتِفْزَازُ هُوَ الْإِزْعَاجُ بِسُرْعَةٍ.
﴿وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ﴾ أَيْ بَعْدَكَ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ ﴿خِلَافَكَ﴾ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ" (التَّوْبَةِ-٨١) وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ (٣). ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ أَيْ: لَا يَلْبَثُونَ بِعَدَكَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَهْلَكُوا فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: مُدَّةُ حَيَاتِهِمْ وَعَلَى الثَّانِي: مَا بَيْنَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ قُتِلُوا بِبَدْرٍ.
﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (٧٧) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ أَيْ: كَسُنَّتِنَا فَانْتَصَبَ بِحَذْفِ الْكَافِ وَسُنَّةُ اللَّهِ فِي الرُّسُلِ إِذَا كَذَّبَتْهُمُ الْأُمَمُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ مَا دَامَ نَبِيُّهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَإِذَا خَرَجَ نَبِيُّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ عَذَّبَهُمْ.
﴿وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ أَيْ تَبْدِيلًا.

(١) قال الحافظ ابن حجر في "الكافي الشاف" ص (١٠١) :"لم أجده وذكره السهيلي في "الروض الأنف" عن عبد المجيد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم... ". وقال الحافظ ابن كثير: (٣ / ٥٤) : قيل نزلت في اليهود إذ أشاروا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسكنى الشام بلاد الأنبياء وترك سكنى المدينة. وهذا القول ضعيف لأن هذه الآية مكية وسكنى المدينة بعد ذلك وقيل: إنها نزلت بتبوك وفي صحته نظر. وروى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم.. -وساق القصة- ثم قال: "وفي هذا الإسناد نظر والأظهر أن هذا ليس بصحيح فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يغز تبوك عن قول اليهود وإنما غزاها امتثالا لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار"... وانظر: تفسير القرطبي: ١٠ / ٣٠١ أسباب النزول للواحدي ص (٣٣٦) هذا وقد رجح المصنف -رحمه الله- الرواية الآتية على هذه الرواية.
(٢) وهو ما رجحه الطبري في تفسيره: ١٥ / ١٣٣، والقرطبي وانظر: أسباب النزول للواحدي ص (٣٣٦).
(٣) أي معنى: "خلافك" و"خلفك" وبالثانية قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو عن عاصم وسياق المصنف يوحي أن في الأصل سقطا وليس كذلك لأن المثبت في النسخة الخطية القراءة الثانية "خلفك". وانظر: زاد المسير: ٥ / ٧٠.


الصفحة التالية
Icon