وَقِيلَ: مِنْ كُلِّ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ الْمُلُوكُ عَلَى فَتْحِ الْمُدُنِ وَمُحَارَبَةِ الْأَعْدَاءِ.
﴿سَبَبًا﴾ أَيْ: عِلْمًا يَتَسَبَّبُ بِهِ إِلَى كُلِّ مَا يُرِيدُ وَيَسِيرُ بِهِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَالسَّبَبُ: مَا يُوَصِّلُ الشَّيْءَ إِلَى الشَّيْءِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: بَلَاغًا إِلَى حَيْثُ أَرَادَ. وَقِيلَ: قَرَّبْنَا إِلَيْهِ أَقْطَارَ الْأَرْضِ (١).
﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٨٦) ﴾
﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ أَيْ: سَلَكَ وَسَارَ، قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَالْبَصْرَةِ: "فَاتَّبَعَ" وَ"ثُمَّ اتَّبَعَ" مَوْصُولًا مُشَدَّدًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَجَزْمِ التَّاءِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَالصَّحِيحُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ قَطَعَ الْأَلِفَ فَمَعْنَاهُ: أَدْرَكَ وَلَحِقَ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَمَعْنَاهُ: سَارَ، يُقَالُ: مَا زِلْتُ أَتْبَعُهُ حَتَّى أَتْبَعْتُهُ، أَيْ: مَا زِلْتُ أَسِيرُ خَلْفَهُ حَتَّى لَحِقْتُهُ.
وَقَوْلُهُ: "سَبَبًا" أَيْ: طَرِيقًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْزِلًا. ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ: " حَامِيَةٍ " بِالْأَلِفِ غَيْرِ مَهْمُوزَةٍ، أَيْ: حَارَّةٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: ﴿حَمِئَةٍ﴾ مَهْمُوزًا بِغَيْرِ الْأَلِفِ، أَيْ: ذَاتُ حَمْأَةٍ، وَهِيَ الطِّينَةُ السَّوْدَاءُ.
وَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ كَعْبًا: كَيْفَ تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ؟ قَالَ: نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهَا تَغْرُبُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ.
قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ أَيْ: عِنْدَهَا عَيْنٌ حَمِئَةٌ، أَوْ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ.
﴿وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا﴾ أَيْ: عِنْدَ الْعَيْنِ أُمَّةً، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَدِينَةٌ لَهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ بَابٍ، لَوْلَا ضَجِيجُ أَهْلِهَا لَسُمِعَتْ وَجْبَةُ الشَّمْسِ حِينَ تَجِبُ (٢).
﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ﴾ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَهُ وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْإِلْهَامُ (٣).

(١) قال الحافظ ابن كثير: (٣ / ١٠٢) :"... وهكذا ذو القرنين، يسر الله له الأسباب، أي: الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأرض، وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك، قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إلى مثله سببا، والله أعلم".
(٢) في "ب": تغيب. وانظر: تفسير ابن كثير: ٣ / ١٠٣ وقد أشار إلى أنها من الإسرائيليات.
(٣) انظر: زاد المسير: ٥ / ١٨٩.


الصفحة التالية
Icon