وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ النَّارُ بِعَيْنِهَا، وَهِيَ إِحْدَى حُجُبِ اللَّهِ تَعَالَى، يَدُلُّ عَلَيْهِ: مَا رُوِّينَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حِجَابُهُ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" (١).
وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ مُوسَى أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْحَشِيشِ الْيَابِسِ وَقَصَدَ الشَّجَرَةَ وَكَانَ كُلَّمَا دَنَا نَأَتْ مِنْهُ النَّارُ، وَإِذَا نَأَى دَنَتْ، فَوَقَفَ مُتَحَيِّرًا، وَسَمِعَ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ، وَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ السَّكِّينَةُ (٢).
﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٢) ﴾
﴿نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، "أَنِّي" بِفَتْحِ الْأَلِفِ، عَلَى مَعْنَى: نُودِيَ بِأَنِّي. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ، أَيْ: نُودِيَ، فَقِيلَ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.
قَالَ وَهْبٌ نُودِيَ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَقِيلَ: يَا مُوسَى، فَأَجَابَ سَرِيعًا لَا يَدْرِي مَنْ دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَسْمَعُ صَوْتَكَ وَلَا أَرَى مَكَانَكَ فأين أنت؟ ١١/أقَالَ: أَنَا فَوْقَكَ وَمَعَكَ، وَأَمَامَكَ وَخَلْفَكَ، وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَعَلِمَ أَنْ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ، فَأَيْقَنَ بِهِ (٣).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ قَالَ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ. وَيُرْوَى غَيْرُ مَدْبُوغٍ (٤).
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: أُمِرَ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ لِيُبَاشِرَ بِقَدَمِهِ تُرَابَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَيَنَالُهُ بَرَكَتُهَا لِأَنَّهَا قُدِّسَتْ مَرَّتَيْنِ، فَخَلَعَهُمَا مُوسَى وَأَلْقَاهُمَا مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي (٥).
(٢) انظر: البحر المحيط: ٦ / ٢٣٠.
(٣) عزاه السيوطي: ٥ / ٥٥٤ - ٥٥٥ للإمام أحمد في الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الترمذي في اللباس، باب ما جاء في لبس الصوف: ٥ / ٤١٠ وقال: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حميد الأعرج، وحميد هو ابن علي الأعرج، منكر الحديث". ورواه الحاكم في المستدرك: ٢ / ٣٧٩ وصححه على شرط البخاري، فتعقبه الذهبي بقوله: "بل ليس على شرط البخاري، وإنما غره أن في الإسناد حميد بن قيس كذا وهو خطأ إنما هو حميد الأعرج الكوفي ابن علي، أو ابن عمار، أحد المتروكين، فظنه المكي الصادق".
(٥) قال الطبري مرجحا: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: أمر الله - تعالى ذكره - بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي، إذ كان واديا مقدسا، وإنما قلنا ذلك أولى التأولين بالصواب لأنه لا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه أمر بخلعهما من أجل أنهما من جلد حمار، ولا لنجاستهما، ولا خير بذلك عمن يلزم بقوله الحجة. وإن في قوله: "إنك بالوادي المقدس" بعقبه دليلا واضحا على أنه إنما أمره بخلعهما لما ذكرنا". انظر: الطبري: ١٦ / ١٤٤. وانظر المعنى نفسه عند أبي حيان: ١٦ / ٢٣١. ونقل الحافظ ابن كثير: (٣ / ١٤٤) عن سعيد بن جبير أنه - عليه السلام - أمر بخلع نعليه كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة. وأبدى الشيخ الشنقيطي: (٤ / ٢٩٢) حكمة أخرى فقال: وأظهر الأقوال - والله تعالى أعلم-: أن الله أمره بخلع نعليه من قدميه ليعلمه التواضع لربه حين ناداه، فإن نداء الله لعبده أمر عظيم يستوجب من العبد كمال التواضع والخشوع. والله تعالى أعلم.