قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَذَلِكَ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ" (١).
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ" هَذِهِ أَيَّامُ الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: "كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ" يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ، وَإِنَّ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَلْفُ سَنَةٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَإِنَّ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الْعَذَابِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ فِي الثِّقَلِ وَالِاسْتِطَالَةِ وَالشِّدَّةِ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فَكَيْفَ تَسْتَعْجِلُونَهُ؟ هَذَا كَمَا يُقَالُ: أَيَّامُ الْهُمُومِ طِوَالٌ، وَأَيَّامُ السُّرُورِ قِصَارٌ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ يَوْمًا عِنْدَهُ وَأَلْفَ سَنَةٍ فِي الْإِمْهَالِ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ مَتَى شَاءَ أَخَذَهُمْ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ بِالتَّأْخِيرِ، فَيَسْتَوِي فِي قُدْرَتِهِ وُقُوعُ مَا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَتَأَخُّرِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٥١) ﴾
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا﴾ أَيْ أَمْهَلْتُهَا، ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾. ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾. ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ الرِّزْقُ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا. وَقِيلَ: هُوَ الْجَنَّةُ. ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا﴾ أَيْ عَمِلُوا فِي إِبْطَالِ آيَاتِنَا، ﴿مُعَاجِزِينَ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: "مُعَجِّزَيْنِ" بِالتَّشْدِيدِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ سَبَإٍ أَيْ: مُثَبِّطِينَ النَّاسَ عَنِ الْإِيمَانِ، وَقَرَأَ الآخرون: "معاجزين" بالأف أَيْ مُعَانِدِينَ مُشَاقِّينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ ظَانِّينَ وَمُقَدِّرِينَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَنَا بِزَعْمِهِمْ أَنْ لَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَمَعْنَى يُعْجِزُونَنَا، أَيْ: يَفُوتُونَنَا فَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا﴾ (الْعَنْكَبُوتِ: ٤)، ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ وَقِيلَ: "مُعَاجِزِينَ" مُغَالِبِينَ، يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يُظْهِرَ عَجْزَ صَاحِبِهِ.

(١) أخرجه أبو داود في العلم، باب في القصص: ٥ / ٢٥٥ - ٢٥٦، قال المنذري في إسناده المعلى بن زياد، وفيه مقال، ثم ساق شاهدا من حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي وابن ماجه. والإمام أحمد: ٣ / ٦٣، والمصنف في شرح السنة: ١٤ / ١٩١ - ١٩٢.


الصفحة التالية
Icon