وَفِيهِ أَيْضًا: "أَنَّ الْجَبَّارَ دَنَا فَتَدَلَّى". وَذَكَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّ الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (١).
قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ عِنْدِي لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ رُؤْيَا فِي النَّوْمِ، أَرَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ الْوَحْيِ بِدَلِيلِ آخَرِ الْحَدِيثِ: قَالَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ بَعْدَ الْوَحْيِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ تَحْقِيقًا لِرُؤْيَاهُ مِنْ قَبْلُ كَمَا أَنَّهُ رَأَى فَتْحَ مَكَّةَ فِي الْمَنَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ كَانَ تَحْقِيقُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَنَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ (٢) "لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ" (الْفَتْحِ-٢٧).
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَكَانَ بِذِي طَوَى قَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنَّ قَوْمِي لَا يُصَدِّقُونِي، قَالَ: يُصَدِّقُكَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الصَّدِيقُ (٣).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَضِقْتُ بِأَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ فَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَعَدَ مُعْتَزِلًا حَزِينًا فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلِ اسْتَفَدْتَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا قَالَ: نَعَمْ، فَلَمْ يَرَ أَبُو جَهْلٍ أَنَّهُ يُنْكِرُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ قَالَ: أَتُحَدِّثُ قَوْمَكَ مَا حَدَّثْتَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ هَلُمُّوا، قَالَ: فَانْفَضَّتْ إليه المجالس فجاؤوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: فَحَدِّثْ قَوْمَكَ مَا حَدَّثْتَنِي قَالَ: نَعَمْ إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا، وَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَسَعَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ: أَوَقَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قال: نعم، ٢٠٥/أقَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ قَالُوا: وَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي لَيْلَةٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ.

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق: ٦ / ٣١٣، ومسلم في الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه نزلة أخرى) : ١ / ١٦٠-١٦١.
(٢) انظر ما قيل في ذلك كله بالتفصيل: أعلام الحديث للخطابي: ٤ / ١٢٥٤-١٢٥٧، فتح الباري: ١٣ / ٤٧٩-٤٨٧.
(٣) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى": ١ / ٢١٥، والطبراني في "الأوسط" وسعيد بن منصور، وابن مردويه، عن أبي هريرة. انظر: الدر المنثور: ٥ / ٢٢١-٢٢٢.


الصفحة التالية
Icon