فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيَحُكَ إِنَّ الْقَدَرَ إِذَا جَاءَ حَالَ دُونَ الْبَصَرِ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا نَزَلَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ ذَهَبَ اللُّبُّ وَعَمِيَ الْبَصَرُ (١). فَنَزَلَ سُلَيْمَانُ مَنْزِلًا فَاحْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ فَطَلَبُوا فَلَمْ يَجِدُوا، فَتَفَقَّدَ الْهُدْهُدَ لِيَدُلَّ عَلَى الْمَاءِ، فَقَالَ: مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ، عَلَى تَقْرِيرِ أَنَّهُ مَعَ جُنُودِهِ، وَهُوَ لَا يَرَاهُ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الشَّكُّ فِي غَيْبَتِهِ، فَقَالَ: ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ يَعْنِي أَكَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ؟ وَالْمِيمُ صِلَةٌ، وَقِيلَ: "أَمْ" بِمَعْنَى "بَلْ"، ثُمَّ أَوْعَدَهُ عَلَى غَيْبَتِهِ، فَقَالَ: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا﴾
﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢١) ﴾
﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَذَابِ الَّذِي أَوْعَدَهُ بِهِ، فَأَظْهَرُ الْأَقَاوِيلِ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ وَذَنَبَهُ وَيُلْقِيَهُ فِي الشَّمْسِ مُمَعِطًا، لَا يَمْتَنِعُ مِنَ النَّمْلِ وَلَا مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ (٢). وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ حَيَّانَ: لَأَطْلِينَّهُ بِالْقَطْرَانِ وَلَأُشَمِّسَنَّهُ. وَقِيلَ: لَأُودِعَنَّهُ الْقَفَصَ. وَقِيلَ: لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلْفِهِ. وَقِيلَ: لَأَحْبِسَنَّهُ مَعَ ضِدِّهِ. ﴿أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ﴾ لَأَقْطَعَنَّ حلقه، ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّني بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ فِي غَيْبَتِهِ، وَعُذْرٍ ظَاهِرٍ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: «لَيَأْتِيَنَّنِي» بنونين، الأولى ٥٥/ب مُشَدَّدَةٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ.
وَكَانَ سَبَبُ غَيْبَةِ الْهُدْهُدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ (٣) أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى أَرْضِ الْحَرَمِ، فَتَجَهَّزَ لِلْمَسِيرِ، وَاسْتَصْحَبَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالشَّيَاطِينِ وَالطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ مَا بَلَغَ مُعَسْكَرَهُ مِائَةَ فَرْسَخٍ، فَحَمَلَهُمُ الرِّيحُ، فَلَمَّا وَافَى الْحَرَمَ أَقَامَ بِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ، وَكَانَ يَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ بِمَقَامِهِ بِمَكَّةَ خَمْسَةَ آلَافِ نَاقَةٍ وَيَذْبَحُ خَمْسَةَ آلَافِ ثَوْرٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ شَاةٍ (٤) وَقَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ: إِنَّ هَذَا مَكَانٌ يَخْرُجُ مِنْهُ نَبِيٌّ عَرَبِيٌّ صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا، يُعْطَى النَّصْرَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ نَاوَأَهُ، وَتَبْلُغُ هَيْبَتُهُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءٌ، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. قَالُوا فَبِأَيِّ دِينٍ يَدِينُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: يَدِينُ بِدِينِ الْحَنِيفِيَّةِ، فَطُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَهُ وَآمَنَ بِهِ، فَقَالُوا: كَمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خُرُوجِهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ مِقْدَارُ أَلْفِ عَامٍ فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ، قَالَ: فَأَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى قَضَى نُسُكَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ صَبَاحًا، وَسَارَ نَحْوَ الْيَمَنِ فَوَافَى صَنْعَاءَ وَقْتَ الزَّوَالِ، وَذَلِكَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، فَرَأَى أَرْضًا حَسْنَاءَ تَزْهُو خُضْرَتُهَا فَأَحَبَّ
(٢) اعتمد الطبري هذا القول ولم يذكر غيره: ١٩ / ١٤٦، وانظر: الدر المنثور: ٦ / ٣٤٩-٣٥٠، تفسير ابن كثير: ٣ / ٣٦١.
(٣) ما ذكره المصنف عن العلماء ظاهر أنه من الأخبار التي لا سند لها وهي بهذه التفصيلات غريبة.
(٤) في "ب": كبش.