﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١) ﴾
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾ أَيْ: خَالِيًا مَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى وَهَمِّهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ (١). وَقَالَ الْحَسَنُ: "فَارِغًا" أَيْ: نَاسِيًا لِلْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا حِينَ أَمَرَهَا أَنْ تُلْقِيَهُ فِي الْبَحْرِ وَلَا تَخَافُ وَلَا تَحْزَنُ، وَالْعَهْدُ الَّذِي عَهَدَ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهَا وَيَجْعَلَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ: كَرِهْتِ أَنْ يَقْتُلَ فِرْعَوْنُ وَلَدَكِ فَيَكُونَ لَكِ أَجْرُهُ وَثَوَابُهُ وَتَوَلَّيْتِ أَنْتِ قَتْلَهُ فَأَلْقَيْتِهِ فِي الْبَحْرِ، وَأَغْرَقْتِهِ، وَلَمَّا أَتَاهَا الْخَبَرُ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ أَصَابَهُ فِي النِّيلِ قَالَتْ: إِنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِ عَدُوِّهِ الَّذِي فَرَرْتُ مِنْهُ، فَأَنْسَاهَا عَظِيمُ الْبَلَاءِ مَا كَانَ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ إِلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "فَارِغًا" أَيْ: فَارِغًا مِنَ الْحُزْنِ، لِعِلْمِهَا بِصِدْقِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْكَرَ الْقُتَيْبِيُّ هَذَا، وَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: "إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا"؟ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ قِيلَ الْهَاءُ فِي "بِهِ" رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى، أَيْ: كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أَنَّهُ ابْنُهَا من شدة ٦١/ب وَجْدِهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَادَتْ تَقُولُ: وَابْنَاهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا رَأَتِ التَّابُوتَ يَرْفَعُهُ مَوْجٌ وَيَضَعُهُ آخَرُ خَشِيَتْ عَلَيْهِ الْغَرَقَ فَكَادَتْ تَصِيحُ مِنْ شَفَقَتِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَادَتْ تُظْهِرُ أَنَّهُ ابْنُهَا، وَذَلِكَ حِينَ سَمِعَتِ النَّاسَ يَقُولُونَ لِمُوسَى بَعْدَمَا شَبَّ: مُوسَى بْنُ فِرْعَوْنَ، فَشَقَّ عَلَيْهَا فَكَادَتْ تَقُولُ: بَلْ هُوَ ابْنِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى الْوَحْيِ أَيْ: كَادَتْ تُبْدِي بِالْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهَا (٢). ﴿لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ بِالْعِصْمَةِ وَالصَّبْرِ وَالتَّثْبِيتِ، ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الْمُصَدِّقِينَ لِوَعْدِ اللَّهِ حِينَ قَالَ لَهَا: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾
﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ﴾ أَيْ: لِمَرْيَمَ أُخْتِ مُوسَى: ﴿قُصِّيهِ﴾ اتْبَعِي أَثَرَهُ حَتَّى تَعْلَمِي خَبَرَهُ، ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ﴾ أَيْ: عَنْ بُعْدٍ، وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّهَا كَانَتْ تَمْشِي جَانِبًا وتنظر اختلاسا تري أَنَّهَا لَا تَنْظُرُهُ،

(١) انظر الدر المنثور: ٦ / ٣٩٤-٣٩٥، وهو ما رجحه الطبري: ٢٠ / ٣٧.
(٢) ذكر هذه الأقوال الطبري: ٢٠ / ٣٧-٣٨، ثم قال: "والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين ذكرنا قولهم أنهم قالوا: إن كادت لتقول: يا بنياه! لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك، وأنه عقيب قوله: "وأصبح فؤاد أم موسى فارغا" فلأن يكون لو لم يكن ممن ذكرنا في ذلك إجماع على ذلك من ذكر موسى، لقربه منه، أشبه من أن يكون من ذكر الوحي..".


الصفحة التالية
Icon