﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (٤٧) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أَيْ: كَمَا أَنْزَلْنَا إِلَيْهِمُ الْكُتُبَ، ﴿أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ يَعْنِي: مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَأَصْحَابَهُ، ﴿وَمِنْ هَؤُلَاءِ﴾ يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، ﴿مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ وَهُمْ مُؤْمِنُوا أَهْلِ مَكَّةَ ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ﴾ ٦٨/ب، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ عَرَفُوا أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ، وَالْقُرْآنَ حَقٌّ، فَجَحَدُوا. قَالَ قَتَادَةُ: الْجُحُودُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ.
﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو﴾ يَا مُحَمَّدُ، ﴿مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ﴾ قبل ما أنزل إِلَيْكَ الْكِتَابَ، ﴿وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ وَلَا تَكْتُبُهُ، أَيْ: لَمْ تَكُنْ تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ قَبْلَ الْوَحْيِ، ﴿إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ يَعْنِي لَوْ كُنْتَ تَكْتُبُ أَوْ تَقْرَأُ الْكُتُبَ قَبْلَ الْوَحْيِ لَشَكَّ الْمُبْطِلُونَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَقْرَؤُهُ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَيَنْسَخُهُ مِنْهَا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "الْمُبْطِلُونَ" هُمُ الْيَهُودُ، وَمَعْنَاهُ: إِذًا لَشَكُّوا فِيكَ وَاتَّهَمُوكَ، وَقَالُوا إِنَّ الَّذِي نَجِدُ نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى ذَلِكَ النَّعْتِ (١).
ومن زعم من متأخري الفقهاء -كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه- أنه عليه الصلاة والسلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله... فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: ثم أخذ فكتب. وهذه محمولة على الرواية الأخرى: ثم أمر فكتب. ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي وتبرءوا منه.. وإنما أراد الرجل -أعني الباجي- فيما يظهر عنه: أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يحسن الكتابة، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخبارا عن الدجال: "مكتوب بين عينيه كافر" وفي رواية: "ك ف ر، يقرؤها كل مؤمن". وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له. وانظر أيضا: "الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر" تأليف أحمد بن حجر آل بن علي. وراجع فيما سبق: ٣ / ٢٨٨، المحرر الوجيز لابن عطية: ١٢ / ٢٣١.