وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الرَّجُلُ يُعْطِي غيره العطية ليثيب أَكْثَرَ مِنْهَا فَهَذَا جَائِزٌ حَلَالٌ، وَلَكِنْ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ"، وَكَانَ هَذَا حَرَامًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ" (الْمُدَّثِّرِ-٦)، أَيْ: لَا تُعْطِ وَتَطْلُبْ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَيْتَ (١). وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هُوَ الرَّجُلُ يُعْطِي صَدِيقَهُ أَوْ قَرِيبَهُ لِيُكْثِرَ مَالَهُ وَلَا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ (٢). وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ الرَّجُلُ يَلْتَزِقُ بِالرَّجُلِ فَيَخْدِمُهُ وَيُسَافِرُ مَعَهُ فَيَجْعَلُ لَهُ رِبْحَ مَالِهِ الْتِمَاسَ عَوْنِهِ، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ، فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى (٣).
﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ﴾ أَعْطَيْتُمْ مِنْ صَدَقَةٍ ﴿تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ يُضَاعَفُ لَهُمُ الثَّوَابُ فَيُعْطَوْنَ بِالْحَسَنَةِ عشر أمثالها ٧١/ب فَالْمُضْعِفُ ذُو الْأَضْعَافِ مِنَ الْحَسَنَاتِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: الْقَوْمُ مَهْزُولُونَ وَمَسْمُونُونَ: إِذَا هَزَلَتْ أَوْ سَمِنَتْ إِبِلُهُمْ (٤).
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ﴾
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (٥).

(١) انظر الطبري: ٢١ / ٤٦-٤٧، الدر المنثور: ٦ / ٤٩٥-٤٩٦، القرطبي: ١٤ / ٣٦-٣٧، المحرر الوجيز: ١٢ / ٢٦٣.
(٢) الطبري: ٢١ / ٤٧ وهو مروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(٣) زاد المسير: ٦ / ٣٠٤ قال ابن عطية: وهو قريب من التفسير الأول.
(٤) في معاني القرآن للفراء: (٢ / ٣٢٥) : تقول العرب: أصبحتم مسمنين معطشين إذا عطشت إبلهم أو سمنت.
(٥) يقول الله تعالى ذكره للمشركين به، معرفهم قبح فعلهم، وخبث صنيعهم: الله -أيها القوم- الذي لا تصلح العبادة إلا له، ولا ينبغي أن تكون لغيره، هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا، ثم رزقكم وخولكم، ولم تكونوا تملكون قبل ذلك، ثم هو يميتكم من بعد أن خلقكم أحياء، ثم يحييكم من بعد مماتكم لبعث القيامة.
وقوله: "هل من شركائكم... " هل من آلهتكم وأوثانكم التي تجعلونها لله في عبادتكم إياه شركاء من يفعل من ذلكم من شيء، فيخلق أو يرزق، أو يميت أو ينشر. وهذا من الله: تقريع لهؤلاء المشركين. وإنما معنى الكلام أن شركاءهم لا تفعل شيئا من ذلك، فكيف يعبد من دون الله ما لا يفعل شيئا من ذلك. ثم برأ نفسه -تعالى ذكره- عن الفرية التي افتراها هؤلاء المشركون عليه -بزعمهم أن آلهتهم له شركاء- فقال جل ثناؤه: "سبحانه" أي: تنزيها وتبرئة. "وتعالى" يقول: وعلوا له. "عما يشركون" يقول: عن شرك هؤلاء المشركين به. انظر: الطبري: ٢١ / ٤٨.


الصفحة التالية
Icon