وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ، وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَهْلِ الْكُوفَةِ.
وَمَنْ قَالَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ اخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ".
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ كَمَا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا﴾ وَكَانَ اخْتِصَاصُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ الْمَهْرِ لَا فِي لَفْظِ النِّكَاحِ (١).
وَاخْتَلَفُوا فِي الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ؟.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ وَهَبَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ إِلَّا بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، [وَقَوْلُهُ: "إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا" عَلَى طَرِيقِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَوْهُوبَةً، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا] (٢) فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةُ، يُقَالُ لَهَا: أُمُّ الْمَسَاكِينِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ جَابِرٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ. (٣)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ: أَوْجَبْنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، ﴿فِي أَزْوَاجِهِمْ﴾ مِنَ الْأَحْكَامِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ وَلَا يَتَزَوَّجُوا إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ وَمَهْرٍ، ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ أَيْ: مَا أَوْجَبْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، ﴿لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ﴾ وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَوَّلِ الْآيَةِ أَيْ: أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَالْمَوْهُوبَةَ لَكَ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرِجٌ وَضِيقٌ. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

(١) انظر: أحكام القرآن للجصاص: ٥ / ٢٣٦-٢٣٨.
(٢) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٣) انظر: أحكام القرآن للجصاص: ٥ / ٢٣٩.

﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (٥١) ﴾
﴿تُرْجِي﴾ أَيْ: تُؤَخِّرُ، ﴿مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي﴾ أَيْ: تَضُمُّ، ﴿إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: فَأَشْهَرُ الْأَقَاوِيلِ أَنَّهُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ


الصفحة التالية
Icon