وَقِيلَ: عَلَى أَهْلِهَا كُلِّهَا دُونَ أَعْيَانِهَا، كقوله تعالى: "واسئل الْقَرْيَةَ" (يُوسُفَ -٨٢)، أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ.
﴿فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ أَيْ: خِفْنَ مِنَ الْأَمَانَةِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَنَهَا فَيَلْحَقُهُنَّ الْعِقَابُ، ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ يَعْنِي: آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ اللَّهُ لِآدَمَ: إِنِّي عَرَضْتُ الأمانة على السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَلَمْ تُطِقْهَا فَهَلْ أَنْتَ آخِذُهَا بِمَا فِيهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا فِيهَا؟ قَالَ إِنْ أَحْسَنْتَ جُوزِيتَ، وَإِنْ أَسَأْتَ عُوقِبْتَ، فَتَحَمَّلَهَا آدَمُ، وَقَالَ: بَيْنَ أُذُنِي وَعَاتِقِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَّا إِذَا تَحَمَّلْتَ فَسَأُعِينُكَ، اجْعَلْ لِبَصَرِكَ حِجَابًا فَإِذَا خَشِيتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكَ فَأَرْخِ عَلَيْهِ حِجَابَهُ، وَاجْعَلْ لِلِسَانِكَ لِحْيَيْنِ غَلْقًا فَإِذَا غُشِيتَ فَأَغْلِقْ، وَاجْعَلْ لِفَرَجِكَ لِبَاسًا فَلَا تَكْشِفْهُ عَلَى مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: فَمَا كَانَ بَيْنَ أَنْ تَحَمَّلَهَا وَبَيْنَ أَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا مِقْدَارُ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ (١)
وَحَكَى النَّقَّاشُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مُثِّلَتِ الْأَمَانَةُ كَصَخْرَةٍ ملقاة، ودعيت السموات وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ إِلَيْهَا فَلَمْ يَقْرُبُوا مِنْهَا، وَقَالُوا: لَا نُطِيقُ حَمْلَهَا، وَجَاءَ آدَمُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْعَى، وَحَرَّكَ الصَّخْرَةَ، وَقَالَ: لَوْ أُمِرْتُ بِحَمْلِهَا لَحَمَلْتُهَا، فَقُلْنَ لَهُ: احْمِلْهَا، فَحَمَلَهَا إِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ وَضَعَهَا، وَقَالَ وَاللَّهِ لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَزْدَادَ لَزِدْتُ، فَقُلْنَ لَهُ: احْمِلْهَا فَحَمَلَهَا إِلَى حِقْوِهِ، ثُمَّ وَضَعَهَا، وَقَالَ: وَاللَّهُ لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَزْدَادَ لَزِدْتُ، فقلن له ٨٦/ب احْمِلْ فَحَمَلَهَا حَتَّى وَضَعَهَا عَلَى عَاتِقِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَضَعَهَا فَقَالَ اللَّهُ: مَكَانَكَ فَإِنَّهَا فِي عُنُقِكَ وَعُنُقِ ذَرِّيَّتِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظَلُومًا لِنَفْسِهِ جَهُولًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَا احْتَمَلَ مِنَ الْأَمَانَةِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ظَلُومًا حِينَ عَصَى رَبَّهُ، جَهُولًا لَا يَدْرِي مَا الْعِقَابُ فِي تَرْكِ الْأَمَانَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ظَلُومًا لِنَفْسِهِ جَهُولًا بِعَاقِبَةِ مَا تَحَمَّلَ.
وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعَانِي، فِي قَوْلِهِ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ قَوْلَانِ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ ائْتَمَنَ آدَمَ وَأَوْلَادَهُ عَلَى شيء وائتمن السموات وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ عَلَى شَيْءٍ، فَالْأَمَانَةُ فِي حَقِّ بَنِي آدَمَ مَا ذَكَرْنَا فِي الطَّاعَةِ وَالْقِيَامِ بِالْفَرَائِضِ، وَالْأَمَانَةُ في حق السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ هِيَ الْخُضُوعُ وَالطَّاعَةُ لِمَا خَلَقَهُنَّ لَهُ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا﴾ أَيْ: أَدَّيْنَ الْأَمَانَةَ، يُقَالُ: فُلَانٌ لَمْ يَتَحَمَّلِ الْأَمَانَةَ أَيْ: لَمْ يَخُنْ فِيهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ أَيْ: خَانَ فِيهَا، يُقَالُ: فُلَانٌ حَمَلَ الْأَمَانَةَ أَيْ: أَثِمَ فِيهَا بِالْخِيَانَةِ.

(١) انظر: ابن كثير: ٣ / ٥٢٣-٥٢٤.


الصفحة التالية
Icon