بِالرَّفْعِ، أَيْ: هَذِهِ الْأَوْقَاتُ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ، سُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَوْقَاتُ عَوْرَاتٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَضَعُ فِيهَا ثِيَابَهُ فَتَبْدُو عَوْرَتَهُ، ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ﴾ جُنَاحٌ، ﴿وَلَا عَلَيْهِمْ﴾ يَعْنِي: عَلَى الْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ وَالصِّبْيَانِ، ﴿جُنَاحٌ﴾ فِي الدُّخُولِ عَلَيْكُمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، ﴿بَعْدَهُنَّ﴾ أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، ﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ: الْعَبِيدُ وَالْخَدَمُ يَطُوفُونَ عَلَيْكُمْ فَيَتَرَدَّدُونَ وَيَدْخُلُونَ وَيَخْرُجُونَ فِي أَشْغَالِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنٍ، ﴿بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ أَيْ: يَطُوفُ، ﴿بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَقَالَ قَوْمٌ: مَنْسُوخٌ (١).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ سُتُورٌ وَلَا حِجَابٌ (٢)، فَكَانَ الْخَدَمُ وَالْوَلَائِدُ يَدْخُلُونَ فَرُبَّمَا يَرَوْنَ مِنْهُمْ مَا لَا يُحِبُّونَ، فَأُمِرُوا بِالِاسْتِئْذَانِ، وَقَدْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ وَاتَّخَذَ النَّاسُ السُّتُورَ فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ أَغْنَى عَنِ الِاسْتِئْذَانِ (٣) وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، رَوَى سُفْيَانُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ الشَّعْبِيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: "لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" أَمَنْسُوخَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ بِهَا، قَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (٤) وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ نُسِخَتْ، وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ بِهِ النَّاسُ (٥).
(٢) في "الدر المنثور" و"القرطبي": (حجال) جمع (حَجَلَة) وهو بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار كبار.
(٣) عزاه السيوطي لأبي داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي. وانظر: الدر المنثور: ٦ / ٢١٩. قال القرطبي: (١٢ / ٣٠٣) :"هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير، فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية، ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحاري ونحوها".
(٤) أخرجه الطبري: ١٨ / ١٦٢-١٦٣، ونسبه السيوطي: ٦ / ٣١٩ للفريابي.
(٥) أخرجه الطبري: ١٨ / ١٦٣.
﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ أَيْ: الِاحْتِلَامَ، يُرِيدُ الْأَحْرَارَ الَّذِينَ بَلَغُوا، ﴿فَلْيَسْتَأْذِنُوا﴾ أَيْ: يَسْتَأْذِنُونَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ فِي الدخول عليكم، ﴿كَمَااسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ الْأَحْرَارِ وَالْكِبَارِ.