كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ" (١)
﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (٥١) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (٥٤) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا﴾ رَسُولًا يُنْذِرُهُمْ، وَلَكِنْ بَعَثْنَاكَ إِلَى الْقُرَى كُلِّهَا، وَحَمَّلْنَاكَ ثِقَلَ النِّذَارَةِ جَمِيعِهَا، لِتَسْتَوْجِبَ بِصَبْرِكَ عَلَيْهِ مَا أَعْدَدْنَا لَكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ. ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾ فِيمَا يَدْعُونَكَ إِلَيْهِ مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ وَمُدَاهَنَتِهِمْ. ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ﴾ أَيْ: بِالْقُرْآنِ، ﴿جِهَادًا كَبِيرًا﴾ شَدِيدًا. ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ خَلَطَهُمَا وَأَفَاضَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، وَقِيلَ: أَرْسَلَهُمَا فِي مَجَارِيهِمَا وَخَلَاهُمَا كَمَا يُرْسَلُ الْخَيْلُ فِي الْمَرَجِ، وَأَصْلُ "الْمَرَجِ": الْخَلْطُ وَالْإِرْسَالُ، يُقَالُ: مَرَجْتُ الدَّابَّةَ وَأَمْرَجْتُهَا إِذَا أَرْسَلْتُهَا فِي الْمَرْعَى وَخَلَّيْتُهَا تَذْهَبُ حَيْثُ تَشَاءُ، ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ﴾ شَدِيدُ الْعُذُوبَةِ، وَ"الْفُرَاتُ": أَعْذَبُ الْمِيَاهِ، ﴿وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ شَدِيدُ الْمُلُوحَةِ. وَقِيلَ: أُجَاجٌ أَيْ: مُرٌّ ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا﴾ أَيْ: حَاجِزًا بِقُدْرَتِهِ لِئَلَّا يَخْتَلِطُ الْعَذْبُ بِالْمِلْحِ وَلَا الْمِلْحُ بِالْعَذْبِ، ﴿وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ أَيْ: سِتْرًا مَمْنُوعًا فَلَا يَبْغِيَانِ، وَلَا يُفْسِدُ الْمِلْحُ الْعَذْبَ. ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ﴾ مِنَ النُّطْفَةِ، ﴿بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا﴾ أَيْ: جَعَلَهُ ذَا نَسَبٍ وَصِهْرٍ، قِيلَ: "النَّسَبُ" مَا لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ، وَ"الصِّهْرُ": مَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ، فَالنَّسَبُ مَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَالصِّهْرُ مَا لَا يُوجِبُهَا، وَقِيلَ: -وَهُوَ الصَّحِيحُ-: النَّسَبُ: مِنَ الْقَرَابَةِ، وَالصِّهْرُ: الْخُلْطَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْقَرَابَةَ، وَهُوَ السَّبَبُ الْمُحَرِّمُ لِلنِّكَاحِ، وَقَدْ ذَكَرَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ بِالنَّسَبِ سَبْعًا وَبِالسَّبَبِ سَبْعًا، فِي قَوْلِهِ (٢) "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ" (النِّسَاءَ-٢٣)، ﴿وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾
(٢) أخرجه مالك في الاستسقاء، باب الاستمطار بالنجوم: ١ / ١٩٢، والبخاري في الاستسقاء، باب قول الله تعالى: "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون": ٢/٥٢٢، وفي الصلاة والمغازي والتوحيد، ومسلم في الإيمان، باب كفر من قال مطرنا بالنوء، برقم (٧١) : ١ / ٨٣-٨٤، والمصنف في شرح السنة: ٤ / ٤١٩.