إِذَا صُرِفَ عَنْهُ مَعْطُوفُهُ نُصِبَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" (آلِ عِمْرَانَ-١٤٢)، صُرِفَ مَنْ حَالِ الْجَزْمِ إِلَى النَّصْبِ اسْتِخْفَافًا وَكَرَاهِيَةً لِتَوَالِي الْجَزْمِ. ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ أَيْ: يَعْلَمُ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ إِذَا صَارُوا إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْبَعْثِ أَنْ لَا مَهْرَبَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) ﴾
﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [مِنْ رِيَاشِ الدُّنْيَا] (١)، ﴿فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ لَيْسَ مِنْ زَادِ الْمَعَادِ، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [مِنَ الثَّوَابِ] (٢)، ﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ يَسْتَوِيَانِ فِي أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ لَهُمَا يَتَمَتَّعَانِ بِهَا فَإِذَا صَارَا إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ.
﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "كَبِيرَ الْإِثْمِ" عَلَى الْوَاحِدِ هَاهُنَا، وَفِي سُورَةِ النَّجْمِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "كَبَائِرَ" بِالْجَمْعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الْكَبَائِرِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (٣) ﴿وَالْفَوَاحِشَ﴾ قَالَ الْسُّدِّيُّ: يَعْنِي الزِّنَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: مَا يُوجِبُ الْحَدَّ. ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ يَحْلُمُونَ وَيَكْظِمُونَ الغيظ ويتجاوزون. ١١٦/ب
﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ أَجَابُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ، ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ يَتَشَاوَرُونَ فِيمَا يَبْدُو لَهُمْ وَلَا يَعْجَلُونَ ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ﴾ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ، ﴿هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ يَنْتَقِمُونَ مِنْ ظَالِمِيهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدُوا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ يَعْفُونَ عَنْ ظَالِمِيهِمْ فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ"، وَصِنْفٌ يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمِيهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَذِلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا.
قَالَ عَطَاءٌ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمُ الْكُفَّارُ مِنْ مَكَّةَ وَبَغَوْا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ مَكَّنَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى انْتَصَرُوا مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ (٤).
(٢) زيادة من "ب".
(٣) انظر فيما سبق: ٢ / ٢٠١-٢٠٤.
(٤) انظر: زاد المسير: ٧ / ٢٩١.