﴿وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) ﴾
﴿وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: نِعْمَةٌ بَيِّنَةٌ مَنْ فَلْقِ الْبَحْرِ، وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالنِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ابْتَلَاهُمْ بِالرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، وَقَرَأَ: "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً" (الْأَنْبِيَاءِ-٣٥).
﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ ﴿لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى﴾ أَيْ لَا مَوْتَةَ إِلَّا هَذِهِ الَّتِي نَمُوتُهَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَا بَعْثَ بَعْدَهَا. وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ﴾ بِمَبْعُوثِينَ بَعْدَ مَوْتَتِنَا.
﴿فَأْتُوا بِآبَائِنَا﴾ [الَّذِينَ مَاتُوا] (١) ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَنَّا نُبْعَثُ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ خَوَّفَهُمْ مِثْلَ عَذَابِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فَقَالَ: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ﴾ أَيْ لَيْسُوا خَيْرًا مِنْهُمْ، يَعْنِي أَقْوَى وَأَشَدَّ وَأَكْثَرَ مِنْ قَوْمٍ تُبَّعٍ. قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ تُبَّعٌ الْحِمْيَرِيُّ، وَكَانَ سَارَ بِالْجُيُوشِ حَتَّى حَيَّرَ الْحِيرَةَ، وَبَنَى سَمَرْقَنْدَ وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ، سُمِّيَ تُبَّعًا لِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى: "تُبَّعًا" لِأَنَّهُ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ، وَكَانَ هَذَا يَعْبُدُ النَّارَ فَأَسْلَمَ وَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ حِمْيَرُ، فَكَذَّبُوهُ وَكَانَ مِنْ خَبَرِهِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ (٢).
وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالُوا: كَانَ تُبَّعٌ الْآخَرُ وَهُوَ أَسْعَدُ أَبُو كَرِبِ بْنِ مليك [جاء بكر] (٣) حِينَ أَقْبَلَ مِنَ الْمَشْرِقِ وَجَعَلَ طَرِيقَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ كَانَ حِينَ مَرَّ بِهَا خَلَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمِ ابْنًا لَهُ فُقِتَلَ غَيْلَةً، فَقَدِمَهَا وَهُوَ مُجْمِعٌ لِإِخْرَابِهَا وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا، فَجَمْعَ لَهُ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، فَخَرَجُوا لِقِتَالِهِ وَكَانَ الْأَنْصَارُ يُقَاتِلُونَهُ بِالنَّهَارِ وَيُقِرُّونَهُ بِاللَّيْلِ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لِكِرَامٌ، إِذْ جَاءَهُ حَبْرَانِ اسْمُهُمَا: كَعْبٌ وَأَسَدٌ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي قُرَيْظَةَ، عَالِمَانِ وَكَانَا ابْنَيْ عَمٍّ، حِينَ سَمِعَا مَا يُرِيدُ من إهلاك ١٢١/أالْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا، فَقَالَا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا مَا تُرِيدُ حِيلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا، وَلَمْ نَأْمَنْ عَلَيْكَ عَاجِلَ الْعُقُوبَةِ. فَإِنَّهَا مَهَاجِرُ نَبِيٍّ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، مَوْلِدُهُ مَكَّةُ، وَهَذِهِ دَارُ هِجْرَتِهِ وَمَنْزِلُكَ الَّذِي أَنْتَ بِهِ يَكُونُ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ أَمْرٌ كَبِيرٌ فِي أَصْحَابِهِ، وَفِي عَدُوِّهِمْ. قَالَ تُبَّعٌ: مَنْ يُقَاتِلُهُ وَهُوَ نَبِيٌّ؟ قَالَا يَسِيرُ إِلَيْهِ قومه فيقتلون ها هنا، فَتَنَاهَى لِقَوْلِهِمَا عَمَّا كَانَ يُرِيدُ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا دَعَوَاهُ إِلَى دِينِهِمَا فَأَجَابَهُمَا وَاتَّبَعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا وَأَكْرَمَهُمَا وَانْصَرَفَ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ بِهِمَا وَنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ عَامِدِينَ إِلَى الْيَمَنِ،
(٢) انظر: الطبري: ٢٥ / ١٢٨، سيرة ابن إسحاق ص (٢٩-٣٣) تحقيق محمد حميد الله.
(٣) ساقط من "أ".