وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا زَارَ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ فَيَغْدُو مِنَ الشَّامِ فَيَقِيلُ بِمَكَّةَ، وَيَرُوحُ مِنْ مَكَّةَ فَيَبِيتُ عِنْدَ أَهْلِهِ بِالشَّامِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ إِسْمَاعِيلُ مَعَهُ السَّعْيَ، وَأَخَذَ بِنَفْسِهِ وَرَجَاهُ لِمَا كَانَ يَأْمُلُ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَتَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِ، أُمِرَ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَذْبَحَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ هَذَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَوِيَ فِي نَفْسِهِ أَيْ: فَكَّرَ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الرَّوَاحِ، أَمِنَ اللَّهِ هَذَا الْحُلْمُ أَمْ مِنَ الشَّيْطَانِ؟ فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَلَمَّا أَمْسَى رَأَى فِي الْمَنَامِ ثَانِيًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: رَأَى ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ، فَلَمَّا تَيَقَّنَ ذَلِكَ أَخْبَرَ بِهِ ابنه، فقال: "يا بني إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى".
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "تُرَى" بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ -مَاذَا تُشِيرُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ لِيَعْلَمَ صَبْرَهُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَزِيمَتَهُ عَلَى طَاعَتِهِ.
وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ إِلَّا أَبَا عَمْرٍو فَإِنَّهُ يُمِيلُ الرَّاءَ.
قَالَ لَهُ ابْنُهُ: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: فَلَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَلِكَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ خُذِ الْحَبْلَ وَالْمُدْيَةَ نَنْطَلِقْ إِلَى هَذَا الشَّعْبِ نَحْتَطِبُ، فَلَمَّا خَلَا إِبْرَاهِيمُ بِابْنِهِ فِي شِعْبِ ثَبِيرٍ أَخْبَرَهُ بِمَا أُمِرَ، ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.
﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) ﴾
﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ انْقَادَا وَخَضَعَا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ قَتَادَةُ: أَسْلَمَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ وَأَسْلَمَ الِابْنُ نَفْسَهُ، ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أَيْ: صَرَعَهُ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَضْجَعَهُ عَلَى جَبِينِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَالْجَبْهَةُ بَيْنَ الْجَبِينَيْنِ، قَالُوا: فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الَّذِي أَرَادَ ذَبْحَهُ: يَا أَبَتِ اشْدُدْ رِبَاطِي حَتَّى لَا أضْطَرِبُ، وَاكْفُفْ عَنِّي ثِيَابَكَ حَتَّى لَا يَنْتَضِحَ عَلَيْهَا مَنْ دَمِيَ شَيْءٌ فَيَنْقُصُ أَجْرِي وَتَرَاهُ أُمِّي فَتَحْزَنُ، وَاشْحَذْ شَفْرَتَكَ، وَأَسْرِعْ مَرَّ السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيَّ فَإِنَّ الْمَوْتَ شَدِيدٌ، وَإِذَا أَتَيْتَ أُمِّي فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنِّي، وَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرُدَّ قَمِيصِي عَلَى أُمِّي فَافْعَلْ، فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَسْلَى لَهَا عَنِّي، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نِعْمَ الْعَوْنُ أَنْتَ يَا بُنَيَّ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، فَفَعَلَ إِبْرَاهِيمُ مَا أَمَرَ بِهِ ابْنُهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَقَدْ رَبَطَهُ وهو يبكي ٩٦/ب [وَالِابْنُ أَيْضًا يَبْكِي] (١) ثُمَّ إِنَّهُ وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ فَلَمْ تَحُكَّ السِّكِّينُ.