﴿فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ﴾، "هِيَ" كِنَايَةٌ عَنِ الْأَيْدِي -وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ-لِأَنَّ الْغِلَّ يَجْمَعُ الْيَدَ إِلَى الْعُنُقِ، مَعْنَاهُ: إِنَّا جَعَلَنَا فِي أَيْدِيهِمْ وَأَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ، ﴿فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ وَالْمُقْمَحُ: الَّذِي رُفِعَ رَأْسُهُ وَغُضَّ بَصَرُهُ، يُقَالُ: بَعِيرٌ قَامِحٌ إِذَا رَوَى مِنَ الْمَاءِ، فَأَقْمَحَ إِذَا رَفَعَ رَأَسَهُ وَغَضَّ بَصَرَهُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَرَادَ أَنَّ أَيْدِيَهُمْ لَمَّا غُلَّتْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ رَفَعَتِ الْأَغْلَالُ أَذْقَانَهُمْ وَرُؤُسَهُمْ، فَهُمْ مَرْفُوعُو الرُّؤُوسِ بِرَفْعِ الْأَغْلَالِ إِيَّاهَا.
﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (١٢) ﴾
﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: "سَدًّا" بِفَتْحِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّهَا، ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾ فَأَعْمَيْنَاهُمْ، مِنَ التَّغْشِيَةِ وَهِيَ التَّغْطِيَةُ، ﴿فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ سَبِيلَ الْهُدَى.
﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾
﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾، يَعْنِي: إِنَّمَا يَنْفَعُ إِنْذَارُكُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، فَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ حَسَنٍ وَهُوَ الْجَنَّةُ. ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى﴾، عِنْدَ الْبَعْثِ، ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا﴾ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، ﴿وَآثَارَهُمْ﴾ أَيْ: مَا سَنُّوا مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً يُعْمَلُ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا". (١)

(١) قطعة من حديث أخرجه مسلم في الزكاة باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة. برقم (١٠١٧) ٢ / ٧٠٤-٧٠٥، والمصنف في شرح السنة: ٦ / ١٥٩.


الصفحة التالية
Icon