﴿بِمَا تُبْصِرُونَ﴾ أَيْ بِمَا تَرَوْنَ وَبِمَا لَا تَرَوْنَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَقْسَمَ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ [الْمَخْلُوقَاتِ] (١) وَالْمَوْجُودَاتِ. وَقَالَ: أَقْسَمَ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: "مَا تُبْصِرُونَ" مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَ"مَا لَا تُبْصِرُونَ" مَا فِي بَطْنِهَا. وَقِيلَ: "مَا تُبْصِرُونَ" مِنَ الْأَجْسَامِ وَ"مَا لَا تُبْصِرُونَ" مِنَ الْأَرْوَاحِ. وَقِيلَ: "مَا تُبْصِرُونَ" الْإِنْسُ وَ"مَا لَا تُبْصِرُونَ" الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ. وَقِيلَ النِّعَمُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ. وَقِيلَ: "مَا تُبْصِرُونَ" مَا أَظْهَرَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ وَاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ: و"مَا لَا تُبْصِرُونَ" مَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا.
﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ﴾
﴿إِنَّهُ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ َ﴾ أَيْ تِلَاوَةُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ ١٧٤/أقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ: "يُؤْمِنُونَ وَيَذْكُرُونَ" بِالْيَاءِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، وَأَرَادَ بِالْقَلِيلِ نَفْيَ إِيمَانِهِمْ أَصْلًا كَقَوْلِكَ لِمَنْ لَا يَزُورُكَ: قَلَّمَا تَأْتِينَا. وَأَنْتَ تُرِيدُ: لَا تَأْتِينَا أَصْلًا. ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ﴾ تَخَرَّصَ وَاخْتَلَقَ ﴿عَلَيْنَا﴾ مُحَمَّدٌ ﴿بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ﴾ وَأَتَى بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ. ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ قِيلَ "مِنْ" صِلَةٌ مَجَازُهُ: لَأَخَذْنَاهُ وَانْتَقَمْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: "كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ" (الصَّافَّاتِ-٢٨) أَيْ: مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَخَذْنَاهُ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ. قَالَ الشَّمَّاخُ فِي عَرَابَةُ مَلِكِ الْيَمَنِ:

إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عُرَابَةُ بِاليَمِينِ (٢)
أَيْ بِالْقُوَّةِ، عَبَّرَ عَنِ الْقُوَّةِ بِالْيَمِينِ لِأَنَّ قُوَّةَ كُلِّ شَيْءٍ فِي مُيَامِنِهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَأَخَذْنَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَهُوَ مِثْلُ مَعْنَاهُ: لَأَذْلَلْنَاهُ وَأَهَنَّاهُ كَالسُّلْطَانِ إِذَا أَرَادَ الِاسْتِخْفَافَ
(١) في "ب" المكنونات.
(٢) البيت للشماخ، وعرابة هو ابن أوس الحارثي الأنصاري من سادات المدينة أسلم صغيرا وتوفي بالمدينة نحو سنة ستين.


الصفحة التالية
Icon