﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ أَيِ الْبَيَانُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ مُجْتَمِعِينَ فِي تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِهِ واختلفوا، فآمن ١٩٨/أبِهِ بَعْضُهُمْ، وَكَفَرَ آخَرُونَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ: مَعْنَى قَوْلِهِ "مُنْفَكِّينَ": هَالِكِينَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: انْفَكَّ [صَلَا] (١) الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَهُوَ أَنْ يَنْفَصِلَ فَلَا يَلْتَئِمُ فَتَهْلِكُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَمْ يَكُونُوا هَالِكِينَ مُعَذَّبِينَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا أُمِرُوا بِهِ فِي كُتُبِهِمْ فَقَالَ: ﴿وَمَا أُمِرُوا﴾ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ، ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾ يَعْنِي إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أُمِرُوا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَّا [بِالْإِخْلَاصِ فِي] (٢) الْعِبَادَةِ لِلَّهِ مُوَحِّدِينَ، ﴿حُنَفَاءَ﴾ مَائِلِينَ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ الْمَكْتُوبَةَ فِي أَوْقَاتِهَا، ﴿وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ عِنْدَ مَحَلِّهَا، ﴿وَذَلِكَ﴾ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، ﴿دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ أَيِ الْمِلَّةُ وَالشَّرِيعَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ. أَضَافَ الدِّينَ إِلَى الْقَيِّمَةِ وَهِيَ نَعْتُهُ، لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، وَأَنَّثَ "الْقَيِّمَةَ" رَدًّا بِهَا إِلَى الْمِلَّةِ.
وَقِيلَ: الْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: "الْقَيِّمَةُ" هِيَ الْكُتُبُ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا، أَيْ وَذَلِكَ دِينُ الْكُتُبِ الْقَيِّمَةِ فِيمَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَتَأْمُرُ بِهِ، كَمَا قَالَ: "وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ" (الْبَقَرَةِ ٢١٣).
قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: سَأَلْتُ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ عَنْ قَوْلِهِ: "وَذَلِكَ دِينُ الْقِيمَةِ"؟ فَقَالَ: "الْقَيِّمَةُ":

(١) وسط الظهر منا ومن كل ذي أربع.
(٢) في "ب" بإخلاص.


الصفحة التالية
Icon