هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (٤٠) والثانية (٤١) وأما الآيات الأربع بعدهما فإن الله تعالى يخبر رسوله بقوله ﴿ولقد أرسلنا إلى أمم١ من قبلك﴾ أي أرسلنا رسلاً من قبلك إلى أممهم فأمروهم بالإيمان والتوحيد والعبادة فكفروا وعصوا فأخذناهم بالشدائد من حروب ومجاعات وأمراض لعلهم يتضرعون إلينا فيرجعون إلى الإيمان بعد الكفر والتوحيد بعد الشرك والطاعة بعد العصيان ولما لم يفعلوا وبخهم تعالى بقوله: ﴿فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا٢﴾ أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا إلينا ﴿ولكن﴾ حصل العكس حيث ﴿قست قلوبهم وزين لهم الشيطان﴾ أي حسن لهم ﴿ما كانوا يعملون﴾ من الشرك والمعاصي. وهنا لما نسوا ما ذكرتهم به رسلهم فتركوا العمل به معرضين عنه غير ملتفتين إليه فتح الله تعالى عليهم أبواب كل شيء من٣ الخيرات حتى إذا فرحوا بذلك٤ وسكنوا إليه واطمأنوا ولم يبق بينهم من هو أهل للنجاة. قال تعالى ﴿أخذناهم بغتة﴾ أي فجأة بعذاب من أنواع العذاب الشديدة ﴿فإذا هم مبلسون﴾ ٥ آيسون من الخلاص متحسرون ﴿فقطع دابر٦ القوم الذين ظلموا﴾ أي استؤصلوا بالعذاب عن آخرهم. وانتهى أمرهم ﴿والحمد لله رب العالمين﴾ ناصر أوليائه ومهلك أعدائه فاذكر هذا لقومك يا رسولنا لعلهم يثوبون إلى رشدهم ويعودون إلى الحق الذي تدعوهم إليه وهم معرضون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- من غريب أحوال الإنسان المشرك أنه في حال الشدة الحقيقية يدعو الله وحده ولا يدعو معه الآلهة الباطلة التي كان في حال الرخاء والعافية يدعوها.
٢ يتضرعون: يدعون الله ويتذلّلون له، إذ التضرع مأخوذ من الرضاعة التي هي الذلة، يقال: ضرع إليه فهو ضارع أي: متذلل.
٣ أبواب كل شيء كان مغلقاً عنهم وهو استدراج لهم وقد تطول مدّة الاستدراج والإمهال عشرين سنة فأكثر.
٤ روى أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون﴾.
٥ قالوا: المبلس: هو الباهت الحزين الآيس من الخير لشدة ما نزل به من سوء الحال قال العجاج.
يا صاح هل تعرف رسما مكرساً | قال نعم أعرفه وأبلسا |
٦ الدابر: الآخر يقال: دبر القوم يدبرهم دبراً إذا كان آخرهم. ومعناه أخذهم أجمعين إذ آخر من يؤخذ هو من كان خلف القوم وآخرهم.