وعلى موسى بإعطائه الكتاب ليكون هدى وبياناً لبني إسرائيل فهو متفضل أيضاً على بني إسرائيل فله الحمد وله المنة.
وقوله: ﴿جعلناه﴾ أي الكتاب ﴿هدى﴾ أي بياناً لبني إسرائيل يهتدون إلى سبل الكمال والإسعاد وقوله: ﴿ألا تتخذوا من دوني وكيلا﴾ أي آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل من أجل ألا يتخذوا من غيري حفيظاً لهم يشركونه بي بالتوكل عليه وتفويض أمرهم إليه ناسين لي وأنا ربهم وولي نعمتهم. وقوله تعالى: ﴿ذرية من حملنا مع نوح﴾ أي يا ذرية١ من حملنا مع نوح اشكروني كما شكرني نوح على انجائي إياه في السفينة مع أصحابه فيها، إنه أي نوحاً ﴿كان عبداً٢ شكوراً﴾ فكونوا أنتم مثله فاشكروني بعبادتي ووحدوني ولا تتركوا طاعتي ولا تشركوا بي سِوَايَ وقوله تعالى (وقضينا إلى بني إسرائيل فى الكتاب لتفسدون في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً} يخبر تعالى بأنه أعلم بني اسرائيل بقضائه فيهم وذلك في كتابهم التوراة أنهم يفسدون في الأرض بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب، ويعلون في الأرض بالجراءة على الله وظلم الناس ﴿علواً كبيراً﴾ أي عظيماً. ولابد أن ما قضاه واقع وقوله تعالى: ﴿فإذا جاء وعد أولهما﴾ أي وقت المرة الأولى ﴿بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس٣ شديد﴾ أي قوة وبطش في الحرب شديد، وتم هذا لما أفسدوا وظلموا بانتهاك حدود الشرع والإعراض عن طاعة الله تعالى حتى قتلوا نبيهم "أرميا" عليه السلام وكان هذا على يد الطاغية جالوت فغزاهم من أرض الجزيرة ففعل بهم مع جيوشه ما أخبر تعالى به في قوله: ﴿فجاسوا٤ خلال الديار﴾ ذاهبين جائين قتلاً وفتكاً وإفساداً نقمة الله على بني إسرائيل لإفسادهم وبغيهم البغي العظيم.
وقوله تعالى: ﴿وكان وعداً مفعولا﴾ أي ما حصل لهم في المرة الأولى٥ من الخراب والدمار ومن
٢ أثنى تعالى على عبده نوح بكثرة الشكر لأنّ شكور: من صيغ المبالغة معناه كثيرالشكر روي أنه كان إذا أكل قال الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء لأجاعني، د إذا شرب قال: الحمد لله الذي أرواني ولوشاء لأظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء لأعراني.
٣ قال: ﴿عباداً لنا﴾ ولم يقل: عبادي لأنهم أهل كفر وشرك وفسق فلم يشرفهم بالإضافة إليه ووصفهم بأنهم من ملكه فسخرّهم لتأديب عباده الذين فسقوا عن أمره وخرجوا عن طاعته.
٤ الجوس: وهو مصدر جاس يجوس جوساً معناه: التخلل في البلاد وطرقها ذهاباً وإياباً لتتبع ما فيها، والمراد به تتبع المقاتلة لقتالهم.
٥ في هذه الآيات ذكر مجمل لتاريخٍ بني إسرائيل بدءاً من دولة يوشع بن نون بعد فتحه لبلاد القدس، وطرد العمالقة منها، وإقامة دولة فيها لأوّل مرة وختاماً بطردهم على أيدي الرومان وذلك سنة مائة وخمس وثلاثين بعد ميلاد عيسى عليه السلام، وقسمت الآيات هذا التاريخ قسمين معبرة عنه بالمرتين: الأولى بدءاً من دولة يوشع بن نون واستمرت إلى أن عاثوا في الأرض وفسدوا فيها بالفسق والفجور فسلط عليه البابليين فأسقطوا دولتهم، ومزّقوا ملكهم واستمروا مشتتين إلى أن ملّكوا طالوت وقاتلوا معه على عهد نبي الله حزقيل فهزموا جالوت البابلي، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: ﴿ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً﴾ إذ تكونت لهم دولة عظيمة على عهد كل من طالوت وداود وسليمان واستمرّت حتي فسقوا وفجروا فاستحقوا العذاب فسلّط الله عليهم بختنصر البابلي أيضاً فأحرق هيكل سليمان، ودمّر أورشليم فتركها خراباً ودماراً، وهذه هي المرة الآخرة ثم أنجز لهم الله تعالى ما وعدهم بقوله: ﴿عسى ربكم أن يرحمكم﴾ فاجتمعوا وصلحوا وعاد لهم ملكهم فترة من الزمن، وعادوا إلى الفسق والعصيان فعاد الله تعالى عليهم فسلّط عليهم الرومان سنة ١٣٥ بعد الميلاد فاحتلوا بلادهم وشرّدوهم في الأرض.