معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة مريم إنه بعد أن بشرها جبريل بالولد وقال لها وكان أمراً مقضياً ونفخ في كم درْعها أو جيب قميصها فحملته١ فوراً ﴿وانتبذت به مكاناً قصياً﴾ أي فاعتزلت به في مكان بعيد٢ ﴿فأجاءها المخاض٣﴾ أي ألجأها وجع النفاس ﴿إلى جذع النخلة﴾ لتعتمد عليه وهي تعاني من آلام الطلق وأوجاعه، ولما وضعته قالت متأسفة متحسرة ما أخبر تعالى به: ﴿قالت يا ليتني٤ مت قبل هذا﴾ أي الوقت الذي. أصبحت فيه أم ولد، ﴿وكنت نسياً منسياً٥﴾ أي شيئاً متروكا لا يذكر ولا يعرف وهنا ﴿فنادها﴾ عيسى٦ عليه السلام ﴿من تحتها ألاّ تحزني﴾ يحملها على الصبر والعزاء وقوله تعالى: ﴿قد جعل ربك تحتك سريا﴾ أي نهر ماء يقال له سري، ﴿وهزىء إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي﴾ أي كلي من الرطب واشربي من ماء النهر، ﴿وقري عينا﴾ أي طيبي نفسا وافرحي بولدك، ﴿فإما ترين من البشر أحداً﴾ أي فسألك عن حالك أو عن ولدك فلا تكلميه واكتفي بقولك ﴿إني نذرت للرحمن صوماً﴾ أي صمتاً ﴿فلن أكلم اليوم إنسياً﴾ هذا كله من قول عيسى لها أنطقه الله كرامة لها ليذهب عنها حزنها وألمها النفسي من جراء الولادة وهي بكر لم تتزوج.
٢ انتحت بالحمل إلى مكان بعيد قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال وإنما بعدت فراراً من تعيير قومها بالولادة من غير أب.
٣ يقال: جاء به وأجاءه إلى موضع كذا: اضطره وألجأه.
٤ تمني الموت لا يجوز لحديث: "لاّ يتمنّين أحدكم الموت لضرّ نزل به" الحديث وتمنّته مريم عليها السلام لا لصالح نفسها ولكن لله تعالى، وذلك أنها خافت أن يظنّ بها الشرّ في دينها وتُعَيَّر فتفتن بذلك، وهذا لله، وثانياً خافت أن يقع بعض الناس في البهتان والنسبة إلى الزنى فيهلكون. وهذا أيضاً لله لا لها.
٥ النسي: الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يُتألم لفقده كالوتد والحبل ونحوهما، ويجمع النسي على أنساء قال الكميت رضي الله عنه:
أتجعلنا جسرا لكب قضاعة
ولست بنسي في معدّ ولا دخل
والنسي أيضاً: خرق الحيض التي ترمى بدمها من الحيض.
٦ قرأ نافع (مِن) بكسر الميم حرف جر، وقرأ حفص مَن بفتحها، اسم موصول والمراد بالموصول عيسى عليه السلام ناداها قبل أن ترضعه من تحتها تعجيلا للمسرة والبشرى لها به فأنْ في ألا تحزني تفسيرية لأنّ النداء قول.