﴿وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة﴾ المراد من الأهل أسرته وقومه من قبيلة جرهم والمراد من الصلاة إقامتها ومن الزكاة أداؤها، وهذا مما أعلى شأنه ورفع قدره فاستحق ذكره في القرآن العظيم، وقوله: ﴿كان عند ربه مرضيا﴾ موجب آخر لإكرامه والإنعام عليه بذكره في القرآن الكريم في سلسلة الأنبياء والمرسلين، ومعنى ﴿كان عند ربه مرضيا﴾ أي أقواله وأفعاله كلها كانت مقبولة مرضية فكان بذلك هو مرضيا من١ قبل ربه عز وجل. وقوله تعالى ﴿واذكر في الكتاب إدريس٢﴾ وهو جد أبي نوح واستوجب الذكر في القرآن لأنه ﴿كان صديقا﴾ كثير الصدق مبالغا فيه حتى إنه لم يجر على لسانه كذب قط، وصديقا في أفعاله وما يأتيه فلم يعرف غير الصدق في قول ولا عمل وكان نبياً من أنبياء الله، وقوله ﴿ورفعناه مكاناً علياً﴾ إلى السماء الرابعة٣ في حياته كما رفع تعالى عيسى ورفع محمد إلى ما فوق السماء السابعة. وقوله تعالى: ﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم﴾ كإدريس٤، ﴿وممن حملنا مع نوح﴾ أي في الفلك كإبراهيم، ﴿ومن ذرية إبراهيم﴾ كإسحاق وإسماعيل، ﴿واسرائيل﴾ أي ومن ذرية إسرائيل كموسى وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى، ﴿وممن هدينا﴾ لمعرفتنا وطريقنا الموصل إلى رضانا وذلك بعبادتنا والإخلاص لنا فيها ﴿واجتبينا﴾ لوحينا وحمل رسالتنا. وقوله ﴿إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً٥﴾ أي أولئك الذين هديناهم واجتبينا من اجتبينا منهم. والاجتباء الاختيار والاصطفاء بأخذ الصفوة ﴿إذا تتلى عليهم آيات الرحمن﴾ الحاملة للعظات والعبر والدلائل والحجج ﴿خروا سجدا﴾ لله ربهم ﴿وبكياً﴾ عما يرون من التقصير أو التفريط في جنب ربهم جل وعظم سلطانه.

١ قيل: إن إسماعيل عليه السلام لم يعد شيئاً إلاّ وفىّ به وهو صحيح يقتضيه ظاهر الآية الكريمة، وقد قيل العِدة دَين، وفي الأثر: وأي المؤمن واجب. والوأي. الوعد. قال الشاعر:
متى يقل حرّ لصاحب حاجة
نعم يقضها والحر للرأي ضامن
وقال مالك: إذا سأل الرجل الرجل شيئاً فوعده ثم بدا له عدم إنجاز ما وعد لا شيء عليه ولا يقضي عليه بذلك لأنّ العدة بخير من باب الإحسان وليس على المحسنين من سبيل.
٢ قيل: إنّ إدريس هو أوّل من خط بالقلم وأوّل من خاط الثياب ولبس المخيط وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر.
٣ كما في حديث المعراج في رواية مسلم وجاء فيه: "لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة".
٤ فنال ادريس الشرف بالقرب من آدم، ونال إبراهيم الشرف بالقرب من نوح ونال إسماعيل الشرف واسحق ويعقوب بالقرب من إبراهيم عليهم السلام أجمعين.
٥ البكيّ: مصدر من مصادر بكى يبكي بكاء وبُكىً وبكيًّا، ويكون البكي جمع باكٍ نحو: قعود، وقاعد وسجود جمع ساجد وأصل بكي: بكوي على وزن فعول فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء.


الصفحة التالية
Icon