خاطب١ عيسى عبده ورسوله قائلاً: ﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات﴾ أي الحلال فكان عيسى عليه السلام يأكل من غزل أمه إذ كانت تغزل الصوف بأجرة فكانا يأكلان من ذلك أكلا من الطيب كما أمرهما الله تعالى وقوله: ﴿واعملوا صالحاً﴾ كلوا من الحلال واعملوا صالحاً بأداء الفرائض والإكثار من النوافل، وقوله: ﴿إني بما تعملون عليم﴾ فيه وعد بأن الله تعالى سيثيبهم على ما يعلمون من الصالحات. وقوله: ﴿وأن٢ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾ أعلمهم أن ملتهم وهي الدين الإسلامي دين واحد فلا ينبغي الاختلاف فيه وأعلمهم أيضاً أنه ربهم أي مالك أمرهم والحاكم عليهم فليبتغوه بفعل ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه، لينجوا من عذابه ويظفروا برحمته ودخول جنته.
وقوله تعالى: ﴿فتقطعوا أمرهم بينهم٣﴾ أي دينهم ﴿زبراً كل حزب بما لديهم فرحون﴾ أي فرقوا دينهم فرقاً فذهبت كل فرقة بقطعة منه وقسموا الكتاب إلى كتب فهذه يهودية وهذه نصرانية واليهودية فرق والنصرانية فرق والإنجيل أصبح أناجيل متعددة وصارت كل جماعة فرحة بما عندها مسرورة به لا ترى الحق إلاّ فيه.. ﴿كل حزب بما لديهم فرحون﴾ وهنا أمر الله رسوله أن يتركهم في غمرة ضلالتهم إلى حين أن ينزل بهم ما قضى به الرب تعالى على أهل الاختلاف في دينه ﴿فذرهم في غمرتهم حتى حين﴾ إذ قال له في سورة الأنعام ﴿إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، لست منهم في شيء﴾ وفيه من التهديد ما فيه. وهذا الذي نعاه تعالى على تلك الأمم قد وقعت فيه أمة الإسلام فاختلفوا في دينهم مذاهب وطرقاً عديدة، وياللأسف وقد حلت بهم المحن ونزل بهم البلاء نتيجة ذلك الخلاف. وقوله: ﴿أيحسبون أنما نمدهم٤ به من مال

١ اختلف في هذا الخطاب هل هو لعيسى عليه السلام نظراً لسياق الحديث أو هو لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو هو عام لكل الرسل، أي: ما من رسول إلاّ وأمره بما في هذا السياق، وأمّة كل رسول تابعة له، وما دامت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في مثل هذا فلا داعي إلى الترجيح وعدمه ويشهد للعموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: "يا أيها الناس إن الله طيّب لا يقل إلاّ طيبا، وإن الله أمر المرسلين بما أمر به المؤمنين فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم﴾ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك" والشاهد في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بما أمر به المرسلين".
٢ قرىء: ﴿وانّ﴾ بكسر إن على القطع أي: الابتداء وعلى تقدير قول أو قلنا لهم: ﴿إن هذه﴾.. الخ وقرىء بفتحها، وهي قراءة الأكثرين على تقدير واعلموا ﴿أن هذه أمتكم﴾.. الخ.
٣ كأن هذه الآية تنظر إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا إن أهل الكتاب قبلكم افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة" الحديث أخرجه أبو داود ورواه الترمذي وزاد: "قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي" وقوله: ﴿ملة﴾ فيه دليل على أن الاختلاف في الفروع غير مقصود وإنما المقصود هو ما كان في أصول الدين وقواعده.
٤ ﴿إنما﴾ : ما: موصولة بمعنى الذي أي: أيحبسبون يا رسولنا إن الذي نعطيهم في الدنيا من مال وولد هو ثواب لهم على شركهم وكفرهم إنما هو استدراج وإملاء ليس إسراعاً في الخيرات واختلف في خبر إنّ فقيل: إنه محذوف وتقدير الكلام: إنما نسارع لهم به في الخيرات، والاستفهام في أيحسبون: إنكاري.


الصفحة التالية
Icon