قضى الأجل الذي تعاقد عليه مع صهره شعيب وقد أتم خير الأجلين وأوفاهما وهو العشر حجج قفل (١) ماشيا بأهله زوجته وولده في طريقه إلى مصر لزيارة والدته وإخوته حدث أن ضل الطريق ليلا، وكان الفصل شتاء والبرد شديد فإذا به يأنس ﴿مِنْ جَانِبِ الطُّورٍِ﴾ أي جبل الطور ﴿نَاراً﴾ فقال لأهله امكثوا هنا ﴿إِنِّي آنَسْتُ﴾ أي أبصرت ﴿نَاراً﴾ سأذهب إليها ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ﴾ إذ قد أجد عندها من يدلنا على الطريق أو آتيكم بجذوة (٢) من النار أي خشبة في رأسها نار مشتعلة ﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ أي من أجل اصطلائكم بها أي استدفائكم بها، هذا ما دلت عليه الآية (٢٩) وقوله تعالى في الآية الثانية ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا﴾ أي أتى النار ﴿نُودِيَ﴾ أي ناداه مناد ﴿مِنْ (٣) شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ (٤) فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى﴾ أي ناداه ربه ﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ فألقاها فاهتزت واضطربت وتحركت بسرعة ﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ أي حية عظيمة من الحيات المعروفة بالجنّان ﴿وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ أي فزع منها فرجع من الفزع إلى الوراء ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ أي ولم يرجع إليها من الرعب، فقال له ربه تعالى ﴿أَقْبِلْ﴾ أي على العصا ﴿وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ أي الذي آمنهم ربهم فلا يخافون شيئا.
وقال له بعد أن رجع ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ أي أدخل يدك في جيب قميصك وهو الشق الذي يدخل معه الرأس في الثوب ليلبس وقوله ﴿تَخْرُجْ﴾ أي اليد ﴿بَيْضَاءَ﴾ كالنور ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ أي برص أو نحوه ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ أي يدك مع العضد إلى صدرك ﴿مِنَ الرَّهْبِ (٥) ﴾ أي الخوف فإن يذهب عنك بحيث تعود يدك عادية لا نور فيها كما كانت من قبل إدخالها في جيبك أولا.
ثم قال تعالى له: ﴿فَذَانِكَ (٦) ﴾ أي العصا واليد البيضاء. ﴿بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي آيتان
٢- الجذوة مثلثة الجيم ضماً وفتحاً وكسراً: الجمرة الملتهبة، والجمع جذاً مثلثة الجيم أيضا.
٣- (من) ابتدائية وكذا من الشجرة إذ من الشجرة بدل اشتمال من قوله (من شاطئ الوادي) وشاطئ الوادي وشطه جانبه، والجمع: شطآن وشواطئ.
٤- (الأيمن) أي: عن يمين موسى، والبعقة والجمع بقع: المكان من الأرض وإن فتحت باؤها جمعت على بقاع كجفنة وجفان وأما بالضم فهي كغرفة وغرف، و (من الشجرة) أي: من ناحيتها، وهل الشجرة من سمر أو عليق: (عوسج) الله أعلم.
٥- قرأ الجمهور: (الرهب) بفتح الراء والهاء وقرأ بعضٌ بضم الراء وسكون الهاء: (الرُّهب) وقرأ عاصم بفتح الراء وسكون الهاء (الرَّهب).
٦- (فذانك) بتخفيف النون لغة قريش وبتشديدها مع مدها وتخفيفها مع مدها (فذانيك) لغة هذيل.