هذه أمثلة من شهادات بعض العلماء الذين اتّصلوا به وقيدوا عنه، والذين رووا طرفاً من سيرته العلمية، وَهِي تدلّ على ما بلغه قَدْرُهُ، وما انتهت إليه شهرتُهُ في العلم والتدريس والإجازة، فقد كان مقصد الدارسين من كل فج، وحديث العلماء في المشرق والمغرب، الذين تناقلوا أخباره وتداولوا كتبه يفيدون منها ويتدارسونها ويفزعون إليها في مواطن الاختلاف وتحرير المسائل، وحسبه أن يَسْتخلفه شيخه أبو علي الشلوبين على كرسيه في الجامع الأعظم بإشبيلية ليقوم بدرسه من بعده، فقام به خير قيام وأدّى أداءهُ في توجيه المسائل الدقيقة، باستقصاء أطرافها واستجلاء غوامضها، مِماَّ أعلى قدره يومئذٍ بين الدارسين فاشرأبت إليه الأعناق، وتزاحمت في حلقة دروسه مناكب طلاب العلم على مختلف مراحلهم ودرجاتهم، وحسبه أن كان من آخر المقرئين لكتاب سيبويه العارفين بغوامضه الفاتحين مغاليقه المقربين ما تناء من مسائله، العالمين بعويصه ومشكله، وقد أُعين على ذلك بالانقطاع إلى العلم ومباعدة أهل الدنيا وقلة الصوارف والعيال١.
المبحث الخامس: وفاة ابن أبي الربيع وآثاره
أ- وفاته: كان ابن أبي الربيع مِمّنْ نسأ الله له في الأجل وبارك له في حسن العمل، فقد أمضى سِنيّ حياته- التي قاربت التسعين عاماً في محراب العلم، طالباً يتلقىّ وعالماً يعطى ثمار ما حَصَّلَه من العلم لطلاب العلم والدّارسين علماً منظماً ورواية مُسنَدةً، وإجازةً باقيةً، وكان آخر عمل أراد أنْ يَطْوي به رحلته الطويلة في الدرس والتأليف، ويختم به نشاطه العلمي هو تفسير الكتاب العزيز وإعرابه، فقد شرع في إملاء ما أَعدَّهُ في آخر أيامه من تفسير وإعرابِ وقراءاتٍ على القرآن الكريم، وفيما كان يتوجه هذا العمل بين يديه أتاه اليقين صبيحةَ يوم الجمعة السّادس عشر من شهر صفر من سنة ٦٨٨ هـ.