ومذاق من مذاقات أولى الإشارات، وأرباب السلوك، وأصحاب الطريق. ففيه تذكير بأن ما عزب عن الأفهام دركه من أسرار التفاسير الصوفية الأخرى الدسمة، لا يمسها بالعيب والطعن لقصور العقل عن النهوض باستشراق ما أطلع عليه أهلها من أسرار، فكم من مذاقات تناولها بالعقل متناولوها فمسخوها، ووصلوا بأهلها إلى الحلول والإلحاد، وهم بعقائدهم النقية أبعد الناس عن ذلك، ومن الجور الفادح أن نلبسهم بذلك ثياب الملحدين، ونرميهم بالكفر أو الانحراف عن سواء السبيل.
ومن مميزات ذلك التفسير أنه يكشف عن مشارب القوم، ونهج الصوفية فى استمدادهم من الحق تعالى، في كل ما يأتون من مواجيد، فهو يدلّل خلال قراءته- فى وعى- على أن كل صغيرة وكبيرة من مفاهيم الصوفية لها أصل من القرآن أو سند من السنّة لأن قلوبهم مرايا صافية، يسطع عليها نور الحق، ومحال أن تعكس ما لا يرضى الحق. فليس الصوفية فى الواقع إلا روافد تستقى من ينبوع الشريعة ومعينها الطيب، غاية الأمر أنهم ملهمون بتجلى الله عليهم فى كلامه، بالجديد من أسرار، وتجليات الله لا تتناهى. ووقف غيرهم عند المسطور المتوارث، فداروا فى نطاقه، ولم يتجاوزوا حدوده.
هذه نبذة عاجلة عن الكتاب وبعض مميزاته. أما عن المؤلف فقد تناول محقق التفسير ما فيه الكفاية والغنى عن البيان. وأبرز استعداده الفطري وحافظته الواعية، وذكاءه النادر، ما كان سبيلا إلى أن يحصل من دراسته الأدب والعلوم العقلية والنقلية، دينية وغير دينية، ما جعله كنزا للعلوم والآداب، عدا موهبة سخية فى نظم الشعر، وتذوق الأسلوب العربي، وعقيدة نقية فى تمسكه بمذهب أهل السنة، لم يشبها ما خاض فيه من علم الكلام وخلافات أهله.
فالمؤلف- رحمه الله كان مؤهلا أن يدرس الأسلوب القرآنى، ويستخرج منه ما يستخرج من إشاراته. والحق أن تلك الإشارات ليست وليدة دراسة العقول، وإنما هى وليدة الإلهامات بعد فتح عيون القلوب. وفيما سبق من توضيح ذلك ما يغنى عن تكرار التبيان.
فإن كان لإمامنا ابن عجيبة ما سبق من شهرة علمية ودينية وأدبية ولغوية وعقيدية، فذلك سمة من السمات الدالة على أن رجال الله يعدّهم قبل أن يختارهم لحضرته، ليعزهم بعزته، ويكونوا خلفاءه- بحق- فى أرضه، يخاطبون كلّا حسب استعداده، فتملأ هيبتهم كلّ فراغ، ويكونون فرسان الحلبة فى كل ميدان ومجال.
على أن تلك الكنوز العلمية المكتسبة التي اشتهر بها إمامنا «ابن عجيبة» ليست شرطا فيمن يختارهم الله من رجاله، فمن شاءه وليا، وأراده له حبيبا علّمه من علمه اللدني، حتى ولو كان أميا. وسيدى «عبد العزيز التباغ» صاحب الإبريز المشهور، وسيدى «على الخواص» شيخ الإمام الشعراني وغيرهما من فحول الصوفية، خير مثال لذلك، وبذلك تصدق المقولة المشهورة: (ما اتخذَ الله من ولى جاهل، ولو اتخذه لعلمه).
والآن أعدك أيها القارئ الكريم لذلك الكتاب العظيم لتدرك بنفسك نفائسه... وأختم حديثى تيمنا- بترديد الكلمة المباركة التي كانت أول خطاب من الله لرسوله- عليه الصلاة السلام- أول بعثته فأقول لك: اقْرَأْ.
د. حسن عباس زكى