«محمد بن المهدى» كان رجلا صالحا، لا يجلس فى الغالب إلا وحده، فقيرا من الدنيا، يبت يقرأ القرآن. توفى رحمه الله سنة «١١٩٦ هـ» - «١».
نشأته العلمية:
نشأ الشيخ ابن عجيبة فى بيت صلاح وتقوى، وأقبل على حفظ القرآن وهو فى سن مبكرة، وقد تميز الشيخ بالقدرة على التركيز العلمي، وتوقد القريحة، ورحل إلى مدينة القصر الكبير، وأقام فيها نحوا من عامين، اجتهد خلالهما فى تحصيل العلم، حتى قال عن نفسه: (أهملت نفسى، ونسيت أمرها، وكنت أقرأ سبعة مجالس، بين الليل والنهار) «٢».
ولم يقنع الطالب بما حصّل فى مدينة القصر الكبير، بل زاده شغفا فى القدوم إلى تطوان، وهى موئلا للعلم والحكمة، ومهبط كثير من العلماء، فقدمها ابن عجيبة وهو ابن العشرين، وأقام فيها، وأقبل على تحصيل العلم فى شتى الأبواب بكل جد، وتنوعت مجالسه بين أئمة الفقه، والتفسير، والحديث، واللغة، والنحو، والصرف، والمنطق، أقبل على هؤلاء وهؤلاء، يستمع منهم، ويقرأ عليهم، ويأخذ عنهم، وأقبلوا عليه يعطونه كل ما عندهم لما وجدوا فيه من حسن الإعداد والاستعداد، فواصل الليل بالنهار.
وسرعان ما ظهرت ثمار هذا الجد والاجتهاد، فلم يبلغ شيخنا تسعا وعشرين سنة، حتى بزغ نجمه وعلا شأنه، وجلس للتدريس فى مساجد تطوان ومدارسها، ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة العلم فى مظانه، فالظمآن إلى المعارف لا يرتوى مهما نهل، ولعله كلما نهل استطاب العلم فازداد إليه ظمأ، والعلم ليس له نهاية له وليس له حدود. يقول شيخنا بعد جلوسه للتدريس: (فكنت فى العلم الظاهر نتعلم ونعلّم فما تركت العلم قط بعد التصدر للتعليم، نعلم من تحتنا ونأخذ عمن فوقنا) «٣».
ولهذا شدّ الرحال إلى فاس، وهو فى سن الأربعين، فسمع من علمائها، وأخذ عنهم، وقد توفر له فيها أساطين العلم فى مختلف الفروع، فأخذ علم الحديث عن محدث عصره (التاودى بن سودة)، ودرس التفسير والفرائض واللغة، ومكث كذلك سنتين، عاد بعدهما إلى تطوان ليتابع تدريسه وتأليفه.
يتحدث رضى الله عنه عما حصّله من علوم، فيقول: و (الذي حصّلناه من علوم الأذهان (العقلية) : علم المنطق، والكلام على مذهب أهل السنة، والمهم من علم الهيأة (الفلك)، ومن علم الأديان: علوم القرآن، خصوصا التفسير..
وحصّلنا الفقه بأنواعه، وأصول الفقه، وأصول الدين، وحصّلت أيضا علم الحديث، وعلم السير، وعلم المغازي، والتاريخ، والشمائل، ومن علم اللسان: علم اللغة والتصريف، والنحو، والبيان، بأنواعه، أما التصوف فهو علمى ومحط رحلى، فلى فيه القدم الفالج، واليد الطولى) «٤» وهكذا كان حظه من ثقافة عصره حظا وافرا، فقد أحاط بسائر علوم وقته، وانعكس ذلك على تفسيره، فجاء بحره مرآة لثقافته الواسعة.

(١) المصدر السابق ص ٢٣.
(٢) الفهرسة/ ٢٩.
(٣) الفهرسة ٧٦.
(٤) الفهرسة/ ١٠١


الصفحة التالية
Icon