الإشارة: ولا تقتلوا أنفسكم باتباع الشهوات وتراكم الغفلات، فإنه يفوتها الحياة الحقيقية. وقال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: (لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظ نفسه، فكأنما قتلها). وحظ النفس هو تزكيتها وتحليتها بالكمالات، أو قُوتها من العلم اليقين، والمعرفة وصحة التمكين، والمراد بالنفس هنا الروح، وأما ما اصطلحت عليه الصوفية من أن النفس يجب قتلها، فإن مرادهم بذلك النفس الأمارة، فإن الروح ما دامت مُظلمة بالمعاصي والهوى سُميت نفساً، فإذا تطهرت وتزكت سميت روحًا. وهو المراد هنا. سماها نفسًا باعتبار ما كانت عليه. والله تعالى أعلم.
ثم إن قتل النفس من الكبائر، فمن اجتنبه مع غيره من الكبائر غفرت له الصغائر، كما أشار إلى ذلك ترغيبا فى اجتناب ما ذكر، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٣١]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
قلت: المدخل- بالضم: مصدر، بمعنى الإدخال، وبالفتح: المكان، ويحتمل المصدر.
يقول الحق جلّ جلاله: إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي تُنهون عنها نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ الصغائر وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً وهو الجنة، أو إدخالاً مصحوبًا بالكرامة والتعظيم، واختلف في الكبائر، هل تعرف بالعد أو بالحد؟ فقيل: سبع، وقيل: سبعون، وقيل: سبعمائة، وقيل: كل معصية فهى كبيرة. وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ: الإشراك باللهِ، والسَّحرَ، وقَتلَ النَّفس بغير حقها، وأكل الرّبا، وأكلَ مَالِ اليَتِيمِ، والفرار مِن الزَّحفِ، ورَمي المُحصنَاتٍ الغَافِلاتِ المُؤمِنَاتِ».
قال ابن جزي: لا شك أن هذه مِنَ الكبائر لنص الشارع عليها، وزاد بعضهم عليها أشياء ورد النص عليها في الحديث أنها من الكبائر، منها عقوق الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنهبة، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، ومنع ابن السبيل الماء، والإلحاد في البيت الحرام، والنميمة، وترك التحرّز من البول، والغلول، واستطالة الرجل في عرض أخيه، والجور في الحكم.
وقيل في حدّها: كل جريمة تؤذن بقلة الدين ورقة الديانة، وقيل: ذنوب الظاهر صغائر، وذنوب الباطن كبائر.
وقيل: كل ما فيه حق الغير فهو كبائر، وما كان بينك وبين الله تعالى صغائر، واحتج هذا بقوله- عليه الصلاة والسلام-: «يُنَادِي يومَ القيامة مناد من بُطنان العرش «١» : يا أمّة أحمد، أن الله تعالى يقول: أمَّا ما كان لي قِبلَكُمُ فقد وهبتهُ لكم، وبقيت التباعات، فتواهبوها، وادخلوا الجنة».